يؤكد القرآن على العفو، والصبر، والإحسان، والعدل، والسعي للصلح لإعادة بناء العلاقات المفقودة. تهدف هذه الإرشادات الإلهية إلى التحول الداخلي، مما يعزز ترميمًا عميقًا ودائمًا للروابط.
القرآن الكريم، وهو مصدر الهداية والإرشاد للبشرية جمعاء، يقدم نهجًا شاملًا وعميقًا لإعادة بناء وترميم العلاقات المتضررة. لا تركز هذه الحلول على الجوانب الخارجية للتفاعلات فحسب، بل تتعمق أيضًا في الجذور الداخلية والقلبية للمشكلات، وتؤكد على تغيير الموقف الفردي لتحقيق السلام والوئام في المجتمع. في التعاليم القرآنية، تُعتبر إعادة بناء العلاقات المفقودة، سواء كانت عائلية أو صداقات أو اجتماعية، واجبًا أخلاقيًا وروحيًا يحمل في طياته مكافآت عظيمة في الدنيا والآخرة. تشمل المبادئ الأساسية لهذا النهج: العفو، والصبر، والإحسان، والعدل، والسعي للصلح. أحد أهم الأسس القرآنية لإعادة بناء العلاقات هو مفهوم "العفو" و "الغفران". يشجع القرآن المؤمنين مرارًا وتكرارًا على العفو والتجاوز عن أخطاء الآخرين، حتى عندما يكونون قد تعرضوا للظلم. هذا الفعل لا يساعد الفرد فقط على التحرر من الضغينة والمرارة، بل يمهد الطريق للمصالحة وإعادة بناء العلاقة. في سورة آل عمران (الآية 134)، يمدح الله أولئك الذين يكظمون غيظهم ويعفون عن الناس، ويقول: "الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ". هذه الآية تبين أن كظم الغيظ والعفو صفات للمحسنين الذين يحبهم الله. فالعفو لا يجلب السلام للمظلوم فحسب، بل يمكن أن يلين قلب المسيء أيضًا، ويدفعه نحو التوبة وتصحيح الخطأ. عندما يبادر شخص، حتى لو لم يكن هو المخطئ الأصلي، بالعفو، تتهاوى الحواجز وينفتح المسار للحوار والتفاهم المتبادل. المبدأ الآخر هو "الصبر" و "التحمل". العلاقات المتضررة لا تُصلح بين عشية وضحاها؛ فهي تتطلب وقتًا وجهدًا وصبرًا. يدعو القرآن المؤمنين إلى الصبر في مواجهة الشدائد والثبات على طريق الخير. الصبر لا يعني السلبية، بل يعني الثبات النشط والحفاظ على الهدوء في مواجهة التحديات والإحباطات. الفرد الذي يتحلى بالصبر في سعيه لإعادة بناء العلاقة يتجنب ردود الفعل المتهورة ويمنح الطرف الآخر المساحة والوقت اللازمين للتفكير والتغيير. هذا الصبر علامة على النضج والحكمة، ويعيد بناء الثقة تدريجيًا. "الإحسان" أو فعل الخير هو حجر زاوية آخر في إصلاح العلاقات. ينصح القرآن بمقابلة السوء بالحسنة. في سورة فصلت (الآية 34)، جاء: "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ". تقدم هذه الآية استراتيجية تحويلية: عندما تواجه سلوكًا غير لائق، بدلاً من الرد بنفس الشدة أو أسوأ، استجب باللطف والإحسان. يمكن لهذا أن يكسر دائرة العداوة ويفاجئ الطرف الآخر، مما يدفعه إلى إعادة النظر في أفعاله وقد يؤدي إلى المصالحة. الأفعال الخيرة الصادقة، دون انتظار مقابل، تمتلك قوة عجيبة لفتح القلوب وشفاء الجروح. علاوة على ذلك، يؤكد القرآن بشدة على أهمية "الصلح" و "الإصلاح"، خاصة في العلاقات الأسرية وبين المؤمنين. سورة الحجرات (الآية 10) تقول بوضوح: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ". هذه الآية لا تؤكد فقط على الأخوة الإيمانية، بل تعتبر تسوية النزاعات واجبًا شرعيًا. في الحالات التي يكون فيها الأفراد غير قادرين على حل المشكلات بأنفسهم، يشير القرآن إلى الوساطة والسعي لإيجاد حل. في سورة النساء (الآية 35)، بخصوص النزاعات الزوجية، يُنصح بتعيين حكمين من كلا الطرفين للعمل على الصلح: "وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا". هذا يوضح أن التدخل المحايد والنوايا الحسنة يمكن أن يكون حيويًا في إعادة بناء العلاقات. "العدل" و "الوفاء بالعهود" مهمان أيضًا في هذه العملية. فبينما يُشجع على العفو، هذا لا يعني التغاضي عن الحقوق أو العدل. يجب أن يقوم إعادة بناء العلاقة على العدل والاحترام المتبادل. يؤكد القرآن على الوفاء بالعهود والمواثيق، لأن خرق العهود يمكن أن يدمر أساس الثقة. يتطلب الترميم الصدق والجهود المبذولة لتعويض الأخطاء السابقة، ويجب أن يكون هذا التعويض عادلاً. وأخيرًا، "التقوى" أو خشية الله، هي الدافع الأساسي وراء كل هذه الأفعال. عندما يتقي الفرد الله، فإن أعماله لا تنبع من الأنانية أو الكبرياء، بل من طلب رضوان الله وتحقيق الثواب في الآخرة. هذا الدافع السامي يساعد الأفراد على تجاوز أنفسهم واتخاذ الخطوات اللازمة لإعادة بناء العلاقات، حتى لو كانت صعبة. بنية خالصة لله وأمل في رحمته، يصبح طريق إعادة بناء العلاقات المفقودة أكثر سهولة، وتكون ثماره أكثر ديمومة. القرآن، بتأكيده على هذه المبادئ، يقدم خطة عمل للشفاء وإعادة بناء العلاقات، لا تؤدي فقط إلى حل النزاعات، بل تساهم أيضًا في تنمية أفراد ومجتمعات أكثر صحة وتعاطفًا.
يُحكى أنه في إحدى المدن، كان هناك صديقان قديمان كالأخوين منذ الطفولة. وفي يوم من الأيام، وبسبب سوء فهم بسيط، نشأ بينهما شقاق وانقطعت وشائج الألفة بينهما. مرت سنوات وهما متباعدان، وقلوبهما مثقلة بهذا الفراق. فكّر أحدهما، واسمه "سليم"، وكان قلبه مليئًا بالحكمة والمودة، هل هذا الفراق يليق بصداقتنا التي دامت طويلاً؟ وتذكر كلمات الحكماء التي تقول: "نهاية الفراق ندم". لذا، حتى لو كان يعلم أن الخطأ لم يكن منه، قرر أن يخطو خطوة نحو المصالحة. بقلب لَيِّن ووجه بشوش، أرسل هدية من أجود ثمار بستانه لصديقه "كريم"، مصحوبة برسالة تحمل معاني الصداقة والعتاب الرقيق. عندما رأى كريم الهدية والرسالة، اغرورقت عيناه بالدموع من شدة الخجل والندم. فقد كان يظن سابقًا، بدافع الكبرياء، أن سليم هو من يجب أن يبادر، لكنه أدرك أن العظمة والكرم يكمنان في العفو والمبادرة. فهرع فورًا إلى سليم، وبحضن دافئ، طلب منه السماح. أصبحت صداقتهما القديمة أقوى من ذي قبل، وعلما أنه لا توجد عقدة لا يمكن حلها بخيط المحبة والتسامح، ولا يوجد قلب لا يمكن شفاؤه باللطف.