نعم، الله مطلع على جميع خطرات أذهاننا ويحاسبنا عليها، ولكنه برحمته يفرق بين الأفكار العابرة والنوايا القلبية.
أيها الإخوة والأخوات في الإيمان، سؤالكم عميق وذو أهمية بالغة، ويتطرق إلى أحد الجوانب الجوهرية في علاقتنا برب العالمين: وهو العلم الإلهي ومحاسبة الأفعال الباطنية. إن الإجابة على هذا السؤال جاءت بوضوح وبيان عذب ومليء بالحكمة في آيات القرآن الكريم. في الواقع، من الآيات التي تشير إلى هذا الموضوع بشكل مباشر هي الآية ٢٨٤ من سورة البقرة المباركة. يقول الله تعالى في هذه الآية: "لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ۖ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ". حرفياً، تعلن هذه الآية أن ما في السماوات وما في الأرض ملك لله. وسواء أظهرتم ما في أنفسكم أو أخفيتموه، فإن الله سيحاسبكم عليه. ثم يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء. والله على كل شيء قدير. توضح هذه الآية صراحة أن الله تعالى ليس فقط على علم بأفعالنا الظاهرة، بل هو محيط إحاطة تامة بأخفى أفكارنا وخطرات أذهاننا ويحاسبنا عليها. هذا يدل على علم الله المطلق واللامتناهي، حيث لا يخفى عليه شيء، حتى الفكرة الخفية. إن الله بصفته "العليم" (ذو العلم الواسع) و"الخبير" (المطلع على بواطن الأمور)، يعلم كل تفاصيل وجودنا، بما في ذلك وساوس النفس وخطرات الذهن. ففي الآية ١٦ من سورة ق نقرأ: "وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ". أي: ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما تحدثه به نفسه من وساوس وأفكار، ونحن أقرب إليه من وريده الذي يغذي جسده. هذه الآية تؤكد أيضاً علم الله اللامتناهي بجميع أفكارنا ووساوسنا الذهنية. ولكن ما معنى هذه "المحاسبة"؟ هل كل فكرة عابرة وغير مقصودة تخضع للمحاسبة؟ هنا يجب أن نلتفت إلى رحمة الله وعدله. فبعد الآية ٢٨٤ من سورة البقرة مباشرة، تأتي الآيتان ٢٨٥ و ٢٨٦ من نفس السورة، وهما مصدر طمأنينة وسكينة للمؤمنين. ففي الآية ٢٨٦ نقرأ: "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ". أي: لا يكلف الله نفساً إلا ما تطيقه. لها ما عملت من خير وعليها ما اكتسبت من شر. ربنا لا تعاقبنا إن نسينا أمراً أو أخطأنا في فعله. ربنا ولا تحمل علينا أمراً ثقيلاً كما حملته على الذين من قبلنا. ربنا ولا تحملنا ما لا نستطيع حمله. واعف عنا، واغفر لنا ذنوبنا، وارحمنا برحمتك الواسعة. أنت ولينا وناصرنا، فانصرنا على القوم الكافرين. من خلال الجمع بين هذه الآيات، ندرك أن الله الرحمن الرحيم، بفضله وكرمه، لا يحاسب على الأفكار العابرة وغير المقصودة التي تمر بذهن الإنسان ولا يسعى لتثبيتها أو العمل بها (مثل الوساوس الشيطانية التي تمر بالذهن). ولكن إذا تحولت هذه الأفكار إلى "نية" و"عزم" قلبي، ونوى الإنسان ارتكاب ذنب، حتى لو لم يتمكن من فعله، فإن تلك النية ستُحاسب. وبالمثل، فإن النوايا الحسنة والطاهرة، حتى لو لم تتحقق، لها قيمة وثواب عظيم عند الله. هذا يدل على أهمية النية والقلب في الإسلام. النية هي روح العمل، والله يهتم بما في القلوب أكثر من الظواهر. إن هذا الوعي بأن الله محيط بجميع أفكارنا هو نعمة ومسؤولية في آن واحد. يشجعنا هذا الوعي على "المراقبة" و"محاسبة النفس". فالمراقبة تعني استحضار وجود الله بشكل دائم، ومحاسبة النفس تعني مراجعة أعمالنا وأفكارنا. هذا يساعدنا على: ١. الحفاظ على طهارة القلب والنوايا: عندما نعلم أن كل فكرة هي موضع اهتمام الله، فإننا نسعى لإبعاد الأفكار السلبية مثل الحسد، الحقد، الكبر، سوء الظن، والرياء من قلوبنا، وبدلاً من ذلك نزرع الأفكار الإيجابية والبناءة مثل المحبة، الخير، التواضع، والصدق. ٢. محاربة الوساوس الشيطانية: يسعى الشيطان دائماً إلى جر الإنسان إلى المعصية عن طريق الوسوسة. والوعي بأن الله مطلع على هذه الوساوس أيضاً، يمنحنا القوة لمقاومتها وعدم إعطائها فرصة. ٣. تعزيز الإخلاص في أعمالنا: عندما نعلم أن الله يرى حتى أخفى نوايانا، فإننا نسعى لأداء أعمالنا لوجهه وحده، ونتجنب الرياء والتظاهر. ٤. الشعور بالسلام والأمان: معرفة أن الله مطلع على كل وجودنا، حتى أفكارنا، يمنحنا شعوراً عميقاً بالقرب والأمان في لحظات الوحدة، الشدة، وحتى الفرح. نعلم أنه لا يخفى عليه شيء، وأنه خير معين ونصير لنا. ٥. اللجوء إلى التوبة والاستغفار: إذا خطرت ببالنا أفكار سلبية أو آثمة، فإن هذا الوعي يشجعنا على التوبة والاستغفار فوراً وطلب المغفرة من الله، مع الثقة بأن الله غفور رحيم. لذلك، الإجابة هي نعم، الله مطلع على جميع خطرات أذهاننا، سواء كانت ظاهرة أو خفية. ولكن بعدله ورحمته اللامتناهية، يميز بين الأفكار العابرة والنوايا المستقرة. هذا الوعي ليس لتخويفنا، بل لهدايتنا نحو حياة أكثر نقاءً، وأعمق روحانية، وأكثر معنى. إنها دعوة إلى تهذيب الذات والوصول إلى أسمى درجات القرب الإلهي. لذا، فلنكن في كل لحظة من حياتنا، ظاهراً وباطناً، حذرين لما نزرعه في أذهاننا وقلوبنا، فإن الله العليم البصير، هو الرقيب والشاهد على كل شيء.
يُروى في روضة سعدي (جلستان) عن رجل كان يبدو صالحًا في ظاهره، دائمًا منشغلًا بالصلاة والذكر، لكن في باطنه، كان قلبه مليئًا بالطمع والبخل والحسد. لقد ظن أنه بهذه المظاهر يمكنه خداع الناس، ولكن سعدي، بابتسامة حانية، يقول: "ليس كل من لبس الخرقة أصبح درويشًا، ولا كل من حمل سجادة على كتفه أصبح صوفياً!" تذكرنا هذه القصة الجميلة بلطف أنه على الرغم من أن البشر قد يُخدعون بالمظاهر، إلا أن هناك حقيقة ثابتة: الله الواحد، مطلع على جميع أسرار القلوب وخطرات الأذهان. إنه لا يحتاج إلى مظاهرنا الخارجية؛ بل ينظر إلى صدق نوايانا وطهارة قلوبنا. هذه القصة دعوة لترسيخ التقوى والإخلاص في نفوسنا، لأن ما يهم ليس ما نظهره للناس، بل ما نحفظه في خلوة قلوبنا وعقولنا لله، وهو المطلع على كل ذلك.