للاعتقاد بأن الله يريد لنا الخير، يجب الإيمان بطبيعته الرحمن الرحيم، ومعرفة أن حتى في الشدائد توجد حكمة خفية عميقة. التوكل على الله والصبر على حكمته يجلب الطمأنينة، ويؤكد لنا أنه يريد لنا الخير المطلق.
«كيف أؤمن بأن الله يريد لي الخير؟» هذا سؤال عميق وجوهري يتبادر إلى ذهن الإنسان في لحظات عديدة من حياته، خاصة عند مواجهة التحديات والصعوبات. تكمن الإجابة على هذا السؤال في جوهر تعاليم القرآن الكريم والفهم الصحيح لذات وصفات الرب العظيم. لكي نؤمن إيماناً كاملاً بأن الله يريد لنا الخير، يجب أن نتعمق في الآيات التي تكشف هذه الحقيقة وتطهر قلوبنا من الشك والتردد، وتهدينا إلى السكينة والطمأنينة. أولاً وقبل كل شيء، المبدأ الأهم الذي يجب الانتباه إليه هو معرفة الصفات الإلهية. فقد عرف الله تعالى نفسه في القرآن الكريم بأسماء عديدة، كل اسم منها يظهر جانباً من عظمته وكماله، ويدل على لا محدودية صفاته الحسنى. ومن أبرز هذه الأسماء «الرحمن» و «الرحيم»، التي تظهر في بداية كل سورة (ما عدا سورة التوبة) وفي أنحاء القرآن كافة. «الرحمن» تعني الواسع العطاء الذي تشمل رحمته جميع المخلوقات، سواء كانوا مؤمنين أو كافرين، محسنين أو مذنبين. هذه الرحمة الشاملة هي أساس الوجود، وحياة كل المخلوقات تنبع منها. و«الرحيم» تعني الرحيم والودود، الذي يخص عباده المؤمنين والمطيعين برحمته الخاصة والأبدية، ويضمن لهم الجزاء الأخروي الطيب. عندما يعرف رب العالمين نفسه بهذه الصفات، ويسقينا كل لحظة بوابل رحمته الواسعة، فهل يمكن أن نتصور أنه يريد لعباده سوى الخير والصلاح؟ ذاته كلها رحمة وخير، والشر والسوء لا يصدران عنه أبداً. يجب أن يترسخ هذا الاعتقاد في قلوبنا بأن كل ما يأتي منه هو خير مطلق، ولا يمكن أن يصيب الإنسان شر أو ضرر من جانبه. من الصفات الإلهية الهامة الأخرى التي تساعدنا في فهم إرادته للخير هي صفة «الحكيم»، أي «صاحب الحكمة البالغة». فالله تعالى يفعل كل شيء بحكمة لا نظير لها، وقد يصعب على العقل البشري المحدود إدراكها أحياناً وقد يستحيل ذلك. قد نواجه في الحياة أحداثاً تبدو لنا في ظاهرها غير سارة، مؤلمة، أو حتى شريرة، لكن القرآن الكريم يعلمنا أن ظاهر الأمور لا يعكس دائماً باطنها، وأنه وراء كل شدة تكمن حكمة عظيمة. فقد جاء في سورة البقرة، الآية 216، بوضوح: «وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ». هذه الآية المحورية هي حجر الزاوية في الإيمان بإرادة الله للخير في جميع الظروف، وتدعونا إلى التسليم لحكمته التي لا مثيل لها. فغالباً ما يكون ما نعتبره مصيبة أو شدة اليوم، هو بوابة للخيرات والبركات الأكبر في المستقبل القريب أو البعيد. قد يكون المرض فرصة للعودة إلى الذات والتوبة وتصحيح مسار الحياة، وقد يكون الفشل المالي سبباً لاكتشاف مواهب كامنة وتغيير المسار والدخول في ميادين جديدة، وقد يقود الفقدان الإنسان إلى مرتبة أعلى من الصبر والرضا، ويقربه إلى الله. هذه الحكمة الخفية تنبع من بصيرة الله الكاملة بالمستقبل وعواقب أفعالنا، والهدف الأسمى من الخلق، والتي لا يمكننا أن ندركها بالكامل، لأن علمنا محدود وليس أزلياً. بالإضافة إلى ذلك، فإن صفة «العليم» تعني «العالم المطلق». فالله يعلم كل تفاصيل حياتنا، من الماضي إلى المستقبل، ومن أدق الأفكار إلى أعظم الأعمال. وهو يعلم ما هو نافع لنا حقاً وما هو ضار، حتى لو كنا لا ندرك ذلك بأنفسنا ونرى المستقبل محاطاً بالغموض. هذا العلم اللامحدود يضمن أن أي قرار يصدر منه، مهما بدا صعباً أو غير سار، ليس بدون هدف أو حكمة، وهو دائماً ما يوجهنا نحو خيرنا وصلاحنا الأسمى. وهذا هو مفهوم «التدبير الإلهي»؛ أن الله يدبر أمور العالم وحياتنا بأفضل شكل ممكن وفي سبيل خيرنا المطلق، ولا يترك عبداً لمصيره. ومن الأسباب القوية الأخرى للإيمان بأن الله يريد لنا الخير، تأكيد القرآن على اليسر وعدم المشقة في الأحكام الإلهية. ففي سورة البقرة، الآية 185، نقرأ: «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ». هذه الآية تبين بوضوح أن حتى الأوامر والتكاليف الدينية قد وضعت بهدف تسهيل الحياة، وإحداث السكينة الروحية، وقيادة الإنسان إلى السعادة والكمال، لا لإحداث المشقة له أو تعسيره. فإذا كان الله قد أراد اليسر في أحكامه التي وضعها لسعادتنا الدنيوية والأخروية، فكيف يمكن أن يريد غير الخير واليسر في تدبير حياتنا بشكل عام؟ هذا اليسر والسهولة في الدين بحد ذاته شهادة على رحمته ومحبته اللامتناهية. علاوة على ذلك، فإن مفهوم «التوكل» في الإسلام هو تجلٍ عملي للإيمان بإرادة الله للخير. التوكل يعني الثقة الكاملة بالله وتفويض الأمور إليه، مع بذل الإنسان كل جهد وطاقة، ودون إهمال أي سعي. هذا التوكل هو دليل على إيمان راسخ بهذه الحقيقة بأن الله هو أفضل المدبرين وأفضل الحافظين، وهو الحامي، ولا يتجاهل أبداً مصلحة عباده. عندما يصل الإنسان بكل وجوده إلى هذه الحقيقة بأن الرزق والعزة والصحة وكل ما يصله، هو من الله وعلى أساس الخير والمصلحة له، تسود قلبه سكينة عميقة لا يمكن لأي عاصفة أن تخلخلها. هذا التوكل يحرر الإنسان من الهموم الزائدة، والتوتر، والقلق الناتج عن المجهول، ويمنحه القوة لمواجهة المشاكل بشجاعة وثبات، لأنه يعلم أن الله لن يتركه وحيداً أبداً، وأن كل ما يحدث، سيكون في النهاية لصالحه، حتى لو بدا ظاهره مختلفاً في البداية. ويشير القرآن أيضاً مراراً إلى أن الله لا يظلم أحداً ولا يلحق الظلم بعباده (مثل الآية 49 من سورة الكهف: «وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا»). وهذا يعني أنه إذا أصابتنا شدة أو أمر غير سار، فهو إما نتيجة لأعمالنا، وخياراتنا، وعواقب ذنوبنا، أو وسيلة لتطهير الذنوب، أو اختبار لرفع الدرجات والتقرب أكثر إلى الله وتحقيق الكمال الروحي. في جميع هذه الحالات، الهدف النهائي هو نمو الإنسان وكماله ووصوله إلى الخير الأبدي والسعادة الخالدة. فالله لا يريد لنا الخير فحسب، بل هو يحب المحسنين والذين يتوجهون إليه ويطيعونه. ففي سورة الأنعام، الآية 12، يقول: «كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ». وهذا يعني أن الرحمة هي الأصل والأساس في علاقة الله بعباده، ولا يحيد عن هذا الأصل أبداً، ورحمته سبقت غضبه. لتأكيد هذا الاعتقاد العميق في قلوبنا وجعله ملموساً في الحياة اليومية، يجب أن نقوم ببعض الممارسات: 1. التفكر والتدبر في الخلق: فالنظر إلى نظام الكون وجماله الذي لا مثيل له، ودورة الحياة، والملايين من النعم التي وهبها الله لنا دون سؤال أو انتظار مقابل، هو بحد ذاته دليل على خيره اللامحدود وفيضه الدائم. كل ذرة من هذا الوجود هي علامة على رحمته وحكمته. 2. الشكر الدائم: تذكير أنفسنا بالنعم وشكر الله عليها يغير نظرتنا من «لماذا حدث هذا؟» إلى «كيف أجد الخير في هذا الوضع وأتعلم منه؟». فشكر النعم يزيدها، ويؤكد لنا أن الخير كله من الله، ويجب أن نكون ممتنين لها. 3. الدعاء والمناجاة: الحديث الودي مع الله، والتعبير عن الاحتياجات والرغبات، وفي الوقت نفسه، التسليم لإرادته وحكمته، يعمق علاقتنا به ويزيد الثقة في خيره، ويجلب السكينة الروحية. 4. الصبر والثبات أمام الابتلاءات: معرفة أن الابتلاءات ليست للإيذاء والمعاناة، بل للنمو، وتطهير الروح، ورفع المقام الروحي، يساعد على رؤية نور الأمل في الخير النهائي حتى في أحلك الأوقات، والإيمان بمستقبل أكثر إشراقاً. 5. دراسة وفهم القرآن: الغوص في آيات الله، وخاصة الآيات التي تشير إلى صفاته الإلهية، وحكمته، ورحمته الواسعة، يجلب قلباً مطمئناً وروحاً هادئة، وينسج الإيمان بخيره في نسيج وجودنا. إن الإيمان بأن الله يريد لنا الخير ليس مجرد اعتقاد ديني فحسب، بل هو ضرورة روحية ونفسية للوصول إلى السلام الحقيقي والمرونة في مواجهة تقلبات الحياة. هذا الإيمان يبقي شعلة الأمل مضاءة في أحلك اللحظات ويمنح الإنسان القدرة على المضي في طريق الحياة بقلب مطمئن، متوكلاً تماماً على الرب العظيم، ومدركاً أن نهاية كل الصعوبات هي لصالحه وخيره المطلق.
في أحد الأيام، ضاع رجل تقي اسمه يحيى في صحراء قاحلة. سيطر عليه العطش والإرهاق، وبدا كل خطوة يخطوها وكأنها تقوده نحو الهلاك. في تلك الحالة، بقلب مليء بالخوف، فكر في نفسه: "هل سيتخلى عني ربي في هذه الصحراء؟" لكن بعد لحظة، طرد هذه الفكرة، وتذكر أن الله أرحم من أن يترك عبده لمصيره. بتوكل عميق، واصل رحلته، على الرغم من أن أمله كان ضعيفاً. بعد ساعة من المشي الشاق، ظهر فجأة ينبوع ماء صافٍ في الأفق. سارع نحو الينبوع، شرب الماء، واستعاد حيويته. بجانب الينبوع، وجد شجيرة من التمر البري تحمل ثماراً حلوة. قال يحيى لنفسه: "ما اعتبرته هلاكاً كان طريقاً إلى الحياة والرزق. كم من الحكم مخفية وراء الصعوبات، ولا تظهر إلا بالصبر والتوكل." أدرك أن الله يريد الخير لعباده حتى في أصعب الظروف، على الرغم من أن أعيننا الظاهرية قد لا تستطيع إدراك ذلك، ويجب الثقة بحكمته وإرادته.