طاعة الله لا تتعارض مع الحرية؛ بل تجلب الحرية الحقيقية بتحرير الأفراد من عبودية النفس والماديات، وتوجيههم نحو الكمال. هذه الطاعة مبنية على إرادة الإنسان الحرة واختياره، لا على الإكراه.
لطالما كان السؤال حول ما إذا كانت طاعة الله تتعارض مع مفهوم الحرية أحد أكثر القضايا إثارة للجدل في الفلسفة واللاهوت. وبالنظر بعمق إلى تعاليم القرآن الكريم، نجد بوضوح أنه لا يوجد تعارض بين هذين المفهومين فحسب، بل إن الطاعة الحقيقية لله تعالى هي البوابة إلى أسمى مراتب الحرية. ففي المنظور القرآني، الحرية لا تعني التحرر من كل قيد أو الاندفاع وراء كل رغبة نفسية؛ بل إن الحرية الحقيقية هي التحرر من عبودية الأهواء النفسية، والتعلق بالماديات، وسيطرة الطواغيت، وكل ما يمنع الإنسان من الكمال. بعبارة أخرى، الحرية في الإسلام هي التحرر "من" عبودية غير الله، للوصول إلى العبودية الخالصة لله التي هي عين العزة والاستقلال. يؤكد القرآن الكريم صراحة على إرادة الإنسان الحرة واختياره. فقد خلق الله تعالى الإنسان مختارًا، ومنحه القدرة على اختيار طريق الهداية أو الضلال. ففي الآية 256 من سورة البقرة، يقول الله بوضوح: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ»؛ أي: "لا إكراه في (قبول) الدين، فقد تبين الرشد من الغي". هذه الآية تبين أن الإيمان والطاعة ليسا قسرًا، بل نابعين من المعرفة والاختيار والقرار الواعي. وكذلك في سورة الكهف، الآية 29، نقرأ: «وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ»؛ أي: "وقل: الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر". هذه الآيات توضح بجلاء أن الله قد منح الإنسان فرصة الاختيار ولم يجبره على الطاعة. وقوة الاختيار هذه هي في حد ذاتها ذروة الحرية التي أنعم الله بها على الإنسان. ولكن لماذا تؤدي طاعة الله إلى الحرية بدلاً من تقييدها؟ يكمن الجواب في حكمة الله وعلمه اللامتناهيين. إنه خالق الإنسان وهو أعلم بكل أبعاد وجوده واحتياجاته ومصالحه. فالأوامر والنواهي الإلهية تعمل بمثابة خارطة طريق شاملة ومتكاملة لسعادة البشر. واتباع هذه الخارطة ينقذ الإنسان من الوقوع في مهاوي الهلاك، والاسترقاق للشهوات، والوقوع في الظلم والفساد. تخيل سفينة في المحيط الشاسع، إذا سارت دون بوصلة أو خريطة، فقد تشعر في البداية بحرية مطلقة، لكن هذه الحرية سرعان ما ستؤدي إلى التيه والضياع، وفي النهاية الغرق. أما إذا سارت السفينة نفسها مع مراعاة مبادئ الملاحة والالتزام بخارطة الطريق، فإنها ستصل إلى وجهتها بثقة، وهنا تكتسب حرية الحركة في المسار الصحيح وتحقيق الهدف معناها الحقيقي. وعلاوة على ذلك، فإن طاعة الله تحرر الإنسان من عبودية غير الله. فعندما يكون الإنسان عبدًا لله وحده، فإنه لا يصبح أسيرًا للمنصب أو المال، ولا عبدًا للشهرة أو الهوى، ولا يخضع لظلم واستغلال الآخرين. وهذا الاستقلال والعزة بالنفس هما أعظم ثمار الحرية الحقيقية. فالمؤمن يرى نفسه مسؤولاً أمام خالق الكون وحده، وهذا يمنحه الجرأة والشجاعة للوقوف في وجه الظالم، وقول الحق، والعمل بما هو حق، دون خوف من إدانة أو طلب مديح الناس. هذا النوع من الحرية هو حرية داخلية لها جذور عميقة في روح الإنسان ونفسه، وتمنحه السكينة والطمأنينة. ومن ناحية أخرى، تضع التعاليم الإلهية بعض القيود على الإنسان، وهذه القيود ناتجة عن الحكمة والمصلحة. فهذه القيود ليست لسلب الحرية، بل للحفاظ عليها ومنع إيذاء النفس والآخرين. فعلى سبيل المثال، لا يعتبر تحريم القتل أو السرقة قيدًا، بل هو ضمانة لحرية وأمان الأرواح والممتلكات في المجتمع. فإذا كان كل شخص حرًا في فعل ما يشاء، فإن المجتمع سينزلق إلى الفوضى، وفي النهاية ستُنتهك حريات الأفراد. ولذلك، فإن الأحكام الإلهية هي أطر توجه الحرية الفردية نحو الحرية الجماعية والكمال الإنساني. إنها تشبه قوانين المرور؛ فالذي يلتزم بهذه القوانين لا تُسلب حريته فحسب، بل يصل إلى وجهته بأمان أكبر ولا يضر بالآخرين. خلاصة القول، إن طاعة الله لا تتعارض مع الحرية بأي حال من الأحوال، بل تكملها وتحققها بالمعنى الحقيقي للكلمة. فالحرية من منظور القرآن هي التحرر من كل قيد يمنع الإنسان من مسار النمو والكمال ويقوده إلى الهاوية. في هذا المسار، طاعة خالق الكون، الذي يعلم المصالح والمفاسد، هي أفضل دليل للإنسان للوصول إلى قمة الحرية والسعادة والسلام الحقيقي في الدنيا والآخرة. هذه الطاعة ليست عبئًا ثقيلاً، بل هي جناح طيران يحرر الإنسان من سجن النفس وقيود الدنيا، ويرفعه نحو اللانهاية المطلقة.
في قديم الزمان، وفي مرج أخضر وارف، عاش حصان شاب مفعم بالحيوية كان يطمح للحرية المطلقة. كان يرى اللجام والسرج قيودًا، ويقول: "أريد أن أكون حرًا، حرًا من أي أمر!". وفي يوم من الأيام، وجد فرصة وتحرر من مالكه. فرحًا، ركض عبر المرج، ذاهبًا حيثما شاء قلبه. لكن لم يلبث طويلاً حتى أحاطت به الذئاب الجائعة في ظلام الليل، فبقي تائهًا ووحيدًا. عانى من الجوع والعطش، ولم يكن لديه مأوى. وفي نفس المرج، كان هناك حصان آخر استمع إلى توجيهات فارسه الحكيم واللطيف. ربما بدا مقيدًا بعض الشيء في البداية، لكن الفارسه كان يقوده إلى أفضل المراعي، ويحميه من الأخطار، ويوفر له مأوى آمنًا. هذا الحصان، وإن بدا تحت الأمر، فإنه في الواقع تمتع بالأمان والراحة وحياة ذات معنى لم يختبرها الحصان "الحر" أبدًا. وكان الفارسه يقول: "إن طاعة التوجيه الصحيح لا تسلب حريتك؛ بل تحررك من براثن الأخطار والجهل، وتقودك نحو وجهتك الحقيقية."