الشك في مسار الحياة ليس دائمًا علامة على الكفر؛ بل إذا صاحبه صدق النية والبحث عن الحقيقة، يمكن أن يؤدي إلى تقوية الإيمان والوصول إلى اليقين، ويذكر القرآن سبل التغلب عليه.
الشك في مسار الحياة، سواء في الأبعاد الكلية للوجود وهدف الخلق، أو في التفاصيل اليومية للقرارات، هو تجربة يواجهها جميع البشر تقريبًا. من منظور القرآن الكريم، فإن الإجابة على سؤال ما إذا كان الشك علامة على الكفر تتطلب تفصيلاً وتمييزًا. يفرق القرآن بين 'التردد والتساؤل البناء' الذي يمكن أن يؤدي إلى فهم أعمق وإيمان أرسخ، و'الشك الهدام والعنيد' الذي ينبع من العناد أو الكبر أو اللامبالاة بالحقيقة. الشك المجرد، بحد ذاته، ليس دائمًا علامة على الكفر؛ بل يمكن أن يكون نقطة انطلاق للبحث عن الحقيقة والوصول إلى اليقين، بشرط أن يسعى الفرد في هذا المسار إلى الإجابة والهداية الإلهية وألا يغلق قلبه أمام العلامات والأدلة. يدعو القرآن مرارًا وتكرارًا البشر إلى التفكر والتدبر والتأمل في آيات الخلق. هذه الدعوات نفسها تشير إلى أن الإيمان ليس مجرد قبول أعمى، بل يقوم على العقل والملاحظة والاستدلال. عندما يتأمل الإنسان في آيات العظمة الإلهية في السماوات والأرض، وفي دورة الحياة والموت، أو حتى في وجوده هو نفسه، قد تنشأ في ذهنه أسئلة. إذا أدت هذه الأسئلة والشكوك إلى البحث والتحقيق وسعى الفرد بصدق للبحث عن الإجابات، فإن هذا ليس مذمومًا بل يمكن أن يكون خطوة نحو تقوية الإيمان. حتى الأنبياء عليهم السلام كانوا يسعون أحيانًا لتحقيق 'اطمئنان القلب'، ليس بسبب الشك في وجود الله أو قدرته، بل للوصول إلى أعلى درجات اليقين والطمأنينة الداخلية. قصة النبي إبراهيم (ع) عندما سأل الله أن يريه كيفية إحياء الموتى، هي مثال واضح على هذا السعي لليقين، الذي يعتبره القرآن ليس كفرًا، بل علامة على الحكمة والبصيرة العميقة. من ناحية أخرى، يشير القرآن الكريم إلى 'الشك' و'التردد' في قلوب بعض الأفراد، والذي يصاحبه العناد أو النفاق أو مرض القلب. هذا النوع من الشك لا ينبع من البحث عن الحقيقة، بل من الرغبة في الإنكار، أو الهروب من المسؤوليات الإيمانية، أو إظهار العداوة والعناد. هؤلاء الأفراد هم الذين لا يقبلون الحقيقة رغم الأدلة الواضحة، وقلوبهم مطبوع عليها. هذا 'الشك' السلبي والهدام هو الذي ينبع من الكبر والغرور وعدم الرغبة في الخضوع للحق. يقول القرآن إن الهداية الحقيقية هي فقط للمتقين، أولئك الذين يؤمنون بالغيب ويستفيدون من الهداية الإلهية، لأن قلوبهم مستعدة للقبول. في المقابل، أولئك الذين في قلوبهم مرض، يزداد شكهم، وهذا الشك يقودهم إلى الضلال. للتغلب على الشكوك البناءة وتحويلها إلى يقين، يقترح القرآن عدة طرق. أول وأهم طريقة هي 'ذكر الله'. يقول الله تعالى في سورة الرعد، الآية 28: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾. تشير هذه الآية بوضوح إلى أن سبيل التخلص من القلق والشك هو اللجوء إلى الله وذكره. الصلاة وتلاوة القرآن والدعاء هي أيضًا من أنواع الذكر التي تساعد على تقوية ارتباط الإنسان بالخالق وتثبيت يقينه. كما تم تقديم 'الصبر' و'الصلاة' كأداتين قويتين للاستعانة بالله في مواجهة المشاكل والشكوك. يساعد الصبر الإنسان على المقاومة ضد الوساوس والضغوط الناتجة عن الشك، وتوصله الصلاة إلى المصدر اللامحدود للقوة والهدوء. في النهاية، مسار حياة المؤمن هو مسار نمو وتحول. الإيمان ليس حالة ثابتة وساكنة؛ بل هو مثل بذرة تنمو وتثمر بالرعاية والتغذية الروحية ومكافحة الآفات (بما في ذلك الشكوك السلبية). الشكوك الأولية في المسار، إذا صاحبتها النية الصادقة والسعي للعثور على الحقيقة، يمكن أن تصبح محكًا للإيمان وتجعله أقوى وأعمق. لذلك، فإن تجربة الشك في مسار الحياة، بحد ذاتها، ليست علامة قاطعة على الكفر، بل يمكن أن تكون دعوة إلى رحلة داخلية لاكتشاف الحقيقة والوصول إلى يقين دائم، بشرط أن يقود هذا الشك الإنسان نحو البحث والاتصال بالمصدر الإلهي، وليس نحو الإنكار والغفلة. الهدف النهائي هو الوصول إلى 'اطمئنان القلب' والسكينة التي لا تتحقق إلا بمعرفة الله وذكره.
يُروى أن شابًا ذهب ذات يوم إلى شيخٍ حكيم، وقلبه مليء بالتردد، وقال: "يا سيدي، لقد ضللت طريقي في الحياة، وقلبي مليء بالشك. أليس هذا علامة على أنني أصبحت خاليًا من الإيمان؟" ابتسم الشيخ بلطف وقال: "يا بني، اهدأ! فبذرة اليقين تُزرع أحيانًا في أرض الشك. المهم هو أن تسقيها بماء التفكر ونور الذكر والعبادة. ذات يوم، جاء شاعر إلى أستاذ كبير وقال إنه وجد عيبًا في قصيدته. فقال الأستاذ: 'تعال، ربما يكون عيبك طريقًا إلى الكمال.' فكر الشاعر وأصلح، وأنشد قصيدة أجمل. شكك أنت أيضًا يمكن أن يكون سلمًا للصعود نحو معرفة أعمق ويقين. نيتك وحدها هي التي تحدد المسار." هدأ الشاب عندما سمع هذه الكلمات وقرر أن يجعل شكوكه جسرًا للوصول إلى فهم أعمق.