لفتح القلب لقبول الحق، ينبغي السعي إلى الطمأنينة بذكر الله، والتدبر في آياته، وتجنب الكبر والذنوب، والتوبة، والثبات على الطريق الصحيح. هذه العملية تتطلب جهداً داخلياً، اتصالاً بالله، واختيار الصحبة الصالحة.
إن سؤال كيفية فتح القلب لقبول الحق هو تساؤل عميق وأساسي، ينبع من فطرة الإنسان الساعية إلى الهداية والفهم. في المفهوم القرآني الشامل، القلب ليس مجرد عضو جسدي، بل هو جوهر الفهم والإدراك والإيمان وحتى الكفر؛ إنه يُعد مركز الهوية الروحية والمعنوية للإنسان. ولذلك، فإن فتح القلب للحق يعني تهيئة هذا المحراب الداخلي لاستقبال النور الإلهي وقبول ما كشفه الله تعالى من خلال وحيه وعلاماته اللامتناهية في الخلق. القرآن الكريم، الذي هو بذاته منبع الحقيقة المطلقة، يقدم سبلاً شاملة وواضحة لهذه الرحلة الروحية العميقة. الخطوة الأولى في هذه العملية التحولية هي 'فهم مكانة القلب ووظيفته'. لقد أشار القرآن مرارًا إلى دور القلب المحوري في الهداية والضلال. ففي آيات مثل سورة محمد، الآية 24، يقول الله تعالى: "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا"؛ أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟ هذه الآية توضح صراحة أن عدم التدبر والفهم العميق ينبع من انغلاق القلب. وقد تكون هذه الأقفال من الغفلة، أو الذنوب، أو التعصب، أو الكبر، أو التعلقات الدنيوية. لذا، فإن المفتاح الأول لفتح هذه الأقفال هو وجود إرادة صادقة ونقية للبحث عن الحقيقة، مقرونة باستعداد داخلي لقبولها، حتى لو تعارضت مع معتقدات سابقة أو مصالح شخصية. هذه الإرادة هي نقطة البداية لكل تحول ونمو روحي، إذ بدونها، لن تؤتي أي جهود ثمارها المرجوة. خطوة حيوية تالية هي 'ذكر الله تعالى'. يؤكد القرآن الكريم بوضوح أن طمأنينة القلب تتحقق بذكر الله. في سورة الرعد، الآية 28، يقول تعالى: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ"؛ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب. فالقلب الذي يفتقر إلى السكينة ويعاني من القلق والتعلقات الدنيوية لا يمكنه أن يتسع لاستقبال الحقيقة. يشمل الذكر مجموعة واسعة من الممارسات: من تلاوة القرآن بتدبر، والدعاء الخالص، والتسبيح، إلى كل تركيز قلبي مستمر على حضور الله في جميع جوانب الحياة. هذا الذكر المستمر يزيل تدريجياً صدأ الذنوب وغبار الغفلة من القلب، ويجعله نقياً، شفافاً، ومستعداً لتلقي الأنوار الإلهية. الذكر يساعد القلب على التحرر من التبعيات المادية والاتصال بالمصدر الأصلي للسلام والحقيقة. 'التدبر في الآيات الإلهية'، سواء كانت الآيات التدوينية (القرآن) أو الآيات التكوينية (الخلق)، هو وسيلة أخرى قوية لفتح القلب. لقد وضع الله تعالى علامات واضحة على عظمته وحكمته وقدرته في جميع أنحاء الكون، من أصغر ذرة إلى أوسع المجرات. توضح سورة الأنعام، الآية 125 هذا المعنى: "فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَل صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ"؛ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء. إن التدبر العميق في هذه العلامات يوقظ العقل ويوجه القلب نحو خالقه. هذا التأمل العميق لا يحرر الإنسان من الافتراضات الخاطئة والتعصب الأعمى فحسب، بل يخلق مساحة واسعة داخل كيانه لنور الحقيقة الإلهية أن يتغلغل. فدراسة القرآن وفهمه بعمق، مصحوباً بالبحث الصادق عن الحق من الله، يقود القلب إلى النور والبصيرة. 'تجنب الكبر والغرور' و'تنمية التواضع' هما حاجز مهم يمنع الإنسان من قبول الحقيقة. فالكبر حجاب عظيم يحول دون رؤية المرء لعيوبه وقبول سمو الحقيقة. يرى الشخص المتكبر نفسه مستغنياً عن الهداية، وحتى لو رأى الحقيقة بوضوح، فإنه يرفض قبولها، لأن قبول الحقيقة يستلزم الاعتراف بالجهل السابق أو الخطأ. وقد عصى إبليس أمر الله بسبب كبره، فكان من الملعونين. لذلك، يجب على المرء أن يجفف جذور الكبر في نفسه بوعي وجهد مستمرين، وأن ينمي التواضع أمام الله وجميع الحقائق الإلهية. التواضع يجعل القلب ليناً ومتقبلاً للنصيحة والهداية الإلهية، ويبعده عن العناد والصلابة. فالقلب المتواضع كالأرض الخصبة التي تنمو فيها بذور الحقيقة بسهولة. 'التوبة والاستغفار' يلعبان دوراً محورياً في تنقية القلب. فالذنوب كحجب تغطي القلب وتصدئه، وتمنعه من إدراك الحقائق بشكل صحيح. وقد أشار القرآن الكريم إلى أهمية التوبة في آيات عديدة. فالله نفسه تواب رحيم، وقد أبقى باب التوبة مفتوحاً لعباده دائماً. التوبة الصادقة والاستغفار من الله يزيلان هذه الحجب، وينقيان القلب من الشوائب، ويزيدان من قدرته على استقبال الإلهامات الإلهية وإدراك الحقائق الروحية. هذا الرجوع والندم القلبي على الماضي، هو بمثابة اعتراف بالخطأ واستعداد للتغيير والنمو والتحرك نحو النور. 'الصبر والثبات' في هذا الطريق أيضاً لهما أهمية قصوى. فقبول الحقيقة يتطلب أحياناً التخلي عن عادات قديمة، والتخلي عن معتقدات خاطئة، وحتى مواجهة الضغوط الاجتماعية والبيئية. وهنا تبرز أهمية الصبر والثبات. يقول الله تعالى في سورة البقرة، الآية 153: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ"؛ يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين. فالصلاة، كركن من أركان الدين ومعراج المؤمن، هي وسيلة قوية للتواصل المباشر مع الله، وطلب العون منه، وتقوية الإرادة. والصبر والثبات يمكّنان الإنسان من مقاومة الإغراءات والعقبات، والاستمرار في مسيرته نحو الحقيقة. وأخيراً، 'مصاحبة أهل الحق والابتعاد عن أهل الباطل' تسهم بشكل كبير في فتح القلب. فالمحيطون بالإنسان ورفاقه يؤثرون تأثيراً بالغاً على قلبه وروحه. إن مصاحبة المؤمنين والحكماء والباحثين عن الحقيقة، الذين تنير قلوبهم بنور الإيمان والبصيرة، يمكن أن تساعد الإنسان بشكل كبير في فتح قلبه. الاستماع إلى الحكمة، والاستفادة من التجارب الروحية للآخرين، والتواجد في بيئة روحية، كلها عوامل تسهم في انفتاح القلب وتقوية ميله نحو الحقيقة. على النقيض، مصاحبة الغافلين والكفار والمعاندين يمكن أن تقسي القلب وتبعده عن الحقيقة. باختصار، فتح القلب لقبول الحقيقة هو عملية شاملة ومستمرة تتطلب مزيجاً من الجهد الداخلي، والتواصل العميق مع الله من خلال الذكر والصلاة، والتدبر في آياته، والتطهير الروحي من خلال التوبة، وتنمية التواضع وتجنب الكبر، واختيار البيئة والرفقة الصالحة. هذا الطريق لا يؤدي فقط إلى قبول الحقيقة الإلهية، بل يجلب السلام والسعادة الدائمة للإنسان، ويرفعه إلى مستوى من البصيرة يرى به العالم بعين الحقيقة. والتوكل على الله في جميع هذه المراحل يضمن النجاح، فهو الفاتح الحقيقي للقلوب والهادي الصادق. هذه الجهود أشبه بسقاية شجرة باستمرار؛ فكلما اعتنيت بها أكثر، تعمقت جذورها وأصبحت ثمارها أحلى – ثمرة الهداية والخلاص.
يروى أنه في زمن ليس ببعيد، كان هناك رجل مغرور يعتقد أن علمه يفوق علم أي شخص آخر، ولم يكن يصغي لنصائح الآخرين. كلما تحدث عالم عن الحقيقة، كان يتكبر وينصرف. في أحد الأيام، التقى في طريقه بعارف متألّم. سأله العارف: 'يا شاب، لماذا أغلقت قلبك حتى لا يجد نور الحقيقة طريقاً إليه؟' فتهكم الرجل المغرور قائلاً: 'ما هي الحقيقة التي ستفتح قلبي؟ أنا أعرف كل شيء.' ابتسم العارف وقال بلطف: 'الحقيقة كنور لا يشرق إلا على قلب مضيء طهر نفسه من غبار الغرور والجهل. إذا تواضعت قليلاً وأصغيت بقلبك، سترى أن العالم مليء بمرآة الحقيقة.' مضى الرجل المغرور في طريقه، لكن كلمات العارف تركت جذورها في قلبه. مرت السنوات، وبعد أن واجه الإخفاقات والمصاعب في حياته، تذكر تلك الكلمات. فكر في نفسه أن كبره ربما كان يمنعه من رؤية الحقيقة. بدأ في الدراسة والتأمل والتضرع. شيئاً فشيئاً، زال الصدأ من قلبه، وتجلت له الحقيقة. أدرك أن فتح القلب هو بداية طريق المعرفة والسكينة، وأن الحقيقة لن تستقر في القلب إلا إذا طهر.