يؤكد القرآن على كسب الرزق الحلال والطيب بالطرق المشروعة، بعيدًا عن أي باطل أو ظلم. هذا النوع من الرزق ضروري ليس فقط للرفاه المادي بل أيضًا للنمو الروحي وقبول العبادات، ويؤدي إلى البركة والسكينة الداخلية.
في تعاليم القرآن الكريم السامية والشاملة، تحظى قضية كسب الرزق الحلال والطيب بأهمية أساسية ومكانة خاصة. لا يؤكد القرآن على ضرورة كسب الرزق فحسب، بل يوضح كذلك تفاصيل كيفية هذا الكسب وجودته. هذا التأكيد لا يعني مجرد جواز تناول بعض الأطعمة، بل يشمل جميع جوانب الحياة الاقتصادية والمعيشية للإنسان، وهو مبني على مبادئ الأخلاق والعدل والتقوى. إن مفهوم «الحلال» في القرآن يتجاوز مجرد «الجواز»؛ بل يعني «الطيب»، «الخالص»، «القانوني»، و«المكتسب بالطرق المشروعة» بما يتوافق مع الفطرة البشرية السليمة والتعاليم الإلهية. يشمل هذا المفهوم عملية الكسب والاستهلاك بأكملها؛ من طريقة الإنتاج والتحضير إلى كيفية الاستهلاك والشكر عليه. يدعو القرآن الكريم الناس مرارًا وتكرارًا إلى الأكل من الأرزاق الحلال والطيبة التي وضعها الله في الأرض. على سبيل المثال، في سورة البقرة، الآية 168، يقول تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ». تشير هذه الآية إلى أن طلب الرزق الحلال هو حكم عام لجميع البشر، وتنهى عن اتباع خطوات الشيطان، أي أي طريق غير مشروع أو غير طاهر في الكسب. كما نقرأ في سورة المائدة، الآية 88: «وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ». هذا التوجيه موجه للمؤمنين ويؤكد على أهمية التقوى الإلهية إلى جانب استهلاك الرزق الحلال، مما يدل على ارتباط لا ينفصم بين الكسب الحلال والعبودية. ينهى القرآن بشدة عن كسب المال بطرق باطلة وغير مشروعة. في سورة النساء، الآية 29، يقول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ ۚ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا». تحظر هذه الآية جميع طرق الكسب غير المشروعة مثل الربا، الرشوة، السرقة، القمار، الاحتيال، الاختلاس، وأي معاملة تحتوي على غش أو خداع أو ظلم. يؤكد التركيز على «تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ» على أهمية العدل والشفافية والأمانة في المعاملات الاقتصادية. من منظور القرآن، يجب أن يتم كسب الرزق من خلال العمل والجهد المشروع والعادل؛ والتجارة، والزراعة، والصناعة، وأي مهنة تفيد المجتمع وتكتسب بطرق مشروعة، هي كلها مأذون بها. تتجاوز أهمية الرزق الحلال في القرآن مجرد الحكم الاقتصادي؛ بل هي مرتبطة بالأبعاد الروحية والأخلاقية لحياة الإنسان. يعتبر الرزق الحلال عاملاً رئيسيًا لنقاء الروح والقلب، وممهدًا لقبول العبادات، وخاصة الدعاء. فالدخل الحرام يلوث الروح، ويغطي القلب، ويمنع استجابة الدعاء. وقد قال النبي الأكرم (صلى الله عليه وسلم): «من أكل لقمة حرام لم تقبل له صلاة أربعين يومًا». هذا يدل على وجود علاقة مباشرة ووثيقة بين حلال الرزق والنمو الروحي للإنسان. من ناحية أخرى، فإن التوكل على الله إلى جانب السعي لكسب الرزق الحلال أمر بالغ الأهمية. ففي آيات عديدة، يصف القرآن الله بأنه الرزاق المطلق، ولكن هذا لا يعني أن يتوقف الإنسان عن العمل، بل يجب أن يسعى بكل جهده في سبيل الكسب الحلال، وفي الوقت نفسه، يترك النتائج لله. هذا المزيج من السعي والتوكل يمنح الإنسان السكينة والقناعة، حتى لو كان رزقه قليلًا. والبركة التي يشدد عليها القرآن والأحاديث الننبية بشكل كبير، ترتبط ارتباطًا مباشرًا بحلال الرزق. فالرزق الحلال، وإن كان قليلًا، يكون مباركًا ويجلب الطمأنينة والرضا الداخلي، في حين أن المال الحرام، مهما كان وفيرًا، لا بركة فيه وهو مصدر للقلق والفساد. باختصار، تؤكد توصيات القرآن الكريم بشأن الرزق الحلال على أربعة مبادئ أساسية: أولاً، كون مصدر الرزق حلالًا وطيبًا (نقيًا وجيدًا)؛ ثانيًا، شرعية وعدالة طريقة اكتسابه والابتعاد عن أي باطل؛ ثالثًا، ارتباط الرزق الحلال بالنقاء الروحي، وقبول العبادات، والسكينة الداخلية؛ ورابعًا، التوكل على الله إلى جانب السعي والجهد. توفر هذه التعاليم إطارًا شاملاً لحياة اقتصادية قائمة على الأخلاق والدين، تضمن للإنسان ليس فقط السعادة الدنيوية، بل أيضًا الفلاح الأخروي. إن الالتزام بهذه المبادئ في عالم اليوم المعقد، حيث تتزايد طرق الكسب غير المشروعة، أصبح ضروريًا أكثر من أي وقت مضى، وسيكون مفتاحًا للصحة الفردية والمجتمعية.
يُحكى أن ملكًا خرج في طلب الصيد إلى الصحراء. فمر بدرويش يجلس في ركن خراب بكل هدوء وسكينة، يأكل خبزه الجاف بمنتهى الرضا. تعجب الملك من هذا الحال وسأله: «يا درويش، كيف أنت مرتاح البال في هذا الخراب مع هذا الخبز الجاف؟ أنت لا تملك خزانة ولا خدمًا، فما الذي جعلك مستغنيًا عن هذه الدنيا؟» أجاب الدرويش بابتسامة لطيفة: «يا أيها الملك، راحتي تأتي من أنني حصلت على هذا الخبز الجاف بجهد يدي، وبطريقة حلال، وليس عليّ أي حساب. أما أنت، فمع كل ذلك الذهب والفضة والجيوش، تعيش كل لحظة في خوف وأمل؛ خشية أن يسطو اللصوص على مالك أو أن يغزو عدو مملكتك. فالسعادة الحقيقية تكمن في تناول لقمة حلال والابتعاد عن الطمع والجشع.» أخذ الملك العبرة من هذا الكلام، وأدرك أن الرزق الحلال، مهما كان قليلاً، يمنح الإنسان راحة لا يستطيع المال غير المشروع، مهما كان كثيرًا، أن يوفرها أبدًا. ومنذ ذلك الحين، سعى الملك إلى تقدير الرزق الحلال وتطبيق العدل.