ينشط الإيمان في الأزمات بسبب طبيعة الإنسان الغافلة وحاجته الفطرية للسند الإلهي. لترسيخ إيمان دائم، يجب الحفاظ على اتصال مستمر بالله من خلال الذكر والعبادات والشكر والتوكل، حتى في الرخاء.
سؤالكم حول سبب نشاط الإيمان فقط في الأزمات يلامس تجربة إنسانية عميقة وشائعة، وهي ظاهرة تناولتها النصوص الدينية منذ القدم، بما في ذلك القرآن الكريم. هذه الظاهرة ليست مجرد ضعف فردي، بل هي تجلٍّ لطبيعة الإنسان التي أشار إليها الله تعالى مرارًا في كتابه. الإجابة على هذا السؤال تتطلب تأملاً شاملاً في الآيات الإلهية التي تتناول نقاط ضعف الإنسان وتقدم في الوقت ذاته حلولًا لترسيخ إيمان مستقر ودائم. يشير القرآن الكريم بوضوح ودقة إلى هذه السمة الإنسانية، وهي أن الإنسان في أوقات الشدة والبلاء، سرعان ما يتوجه إلى الله ويدعوه بكل جوارحه، ولكن ما إن يرفع عنه البلاء ويعود الهدوء، حتى ينسى الله ونعمه أحيانًا. في سورة يونس، الآية 12، يقول الله تعالى: «وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» (وإذا أصابت الإنسان مصيبة، دعانا وهو مضطجع على جنبه، أو قاعد، أو قائم؛ فلما كشفنا عنه مصيبته، استمر في غفلته كأن لم يدعنا لضر أصابه. هكذا زُين للمسرفين ما كانوا يعملون). هذه الآية تظهر بوضوح أن ميل الإنسان للعودة إلى الله في الأزمات هو حقيقة نفسية وروحية متجذرة في حاجته الفطرية إلى سند قوي. في الواقع، في أوج الضعف واليأس، يدرك الإنسان أن القوى الأرضية محدودة، وأن القوة اللانهائية وحدها هي التي تستطيع إنقاذه؛ لذلك، لا يجد قلبه ولسانه مفراً من العودة إلى خالقه. ولكن لماذا يتلاشى هذا الإيمان في أوقات الرخاء؟ يوضح القرآن في سورة فصلت، الآية 51: «وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ» (وإذا أنعمنا على الإنسان، أعرض وتكبّر وابتعد بجانبه؛ وإذا أصابه الشر، فإنه كثير الدعاء). تقدم هذه الآيات صورة واضحة لطبيعة الإنسان التي تميل إلى الغفلة. فالراحة والوفرة، أحيانًا، تضع حجابًا على بصر القلب وتجعل الإنسان غافلًا عن المصدر الأصلي للنعم. في هذه الحالة، يظن الإنسان نفسه مستغنيًا، وبدلًا من الشكر والمحافظة على الاتصال بالله، ينجرف تدريجيًا نحو الملذات الدنيوية العابرة. هذه الغفلة لا تؤدي فقط إلى ضعف الإيمان، بل يمكن أن تدفع الإنسان نحو الجحود وتجاوز الحدود الإلهية. ولكن يجب أن نعلم أن الأزمات ليست مجرد تذكير؛ بل هي امتحانات إلهية تهدف إلى تنقية الإيمان وتنميته. يقول الله تعالى في سورة العنكبوت، الآيتين 2 و 3: «أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ؟ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ» (أحسب الناس أن يتركوا دون اختبار لمجرد قولهم: آمنا؟ ولقد اختبرنا الذين من قبلهم، فليعلمن الله الصادقين في إيمانهم، وليعلمن الكاذبين فيه). تشير هذه الآيات إلى أن الابتلاءات جزء لا يتجزأ من مسار الإيمان. الأزمات هي محكات تكشف صدق ادعاء الإيمان وتوفر فرصة لترسيخه وتعميقه. في قلب هذه الصعوبات يتميز المؤمن الحقيقي عن غيره؛ من لا يترك حبل الله حتى في أوج اليأس، ويتقدم بالصبر والتوكل. حتى لا يكون الإيمان نشيطًا في الأزمات فقط ويتحول إلى قوة دائمة ومستقرة في الحياة، يقدم القرآن حلولًا جذرية. المفتاح الأساسي هو "الذكر الدائم لله"، والذي يعبر عنه القرآن بكلمات مثل "ذكر الله"، "الصلاة"، "الشكر"، و"الصبر". في سورة الرعد، الآية 28، نقرأ: «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (الذين آمنوا بالله ورسله، وتطمئن قلوبهم بذكر الله. ألا بذكر الله تطمئن القلوب وتستقر). تدل هذه الآية على أن الطمأنينة الحقيقية والدائمة ليست مرهونة بالزوال التام للأزمات، بل مرهونة بالاتصال المستمر بمصدر الطمأنينة، وهو الله. الذكر الدائم لله لا يشمل فقط نطق كلمات معينة، بل يشمل حضور القلب والتذكر المستمر لله في جميع شؤون الحياة. هذا يعني أن نعتبر الله حاضرًا وناظرًا في كل لحظة، سواء في الفرح أو الحزن، في النجاح أو الفشل، وأن نرى أنفسنا في حضرته. ولتحقيق هذا "الذكر الدائم"، يمكن الاستفادة من الطرق القرآنية: 1. إقامة الصلاة: الصلاة هي عماد الدين وأهم وسيلة للتواصل اليومي مع الله. أداء الصلاة بحضور قلب ليس مجرد فريضة، بل هو فرصة لا تقدر بثمن لتجديد العهد، والتعبير عن العبودية، وتلقي الطمأنينة الإلهية. الصلوات الخمس اليومية تذكر الإنسان بالله طوال اليوم وتحجزه عن الغفلة والذنب. 2. تلاوة القرآن وتدبره: القرآن هو كلام الله ونور الهداية للحياة. التلاوة المنتظمة والتأمل في آياته يساعد الإنسان على فهم الحكمة الإلهية وبناء إيمانه على أسس أقوى. كل آية هي نافذة على المعرفة الإلهية التي تضيء القلب تدريجيًا وتعمق الاتصال بالله. 3. الصبر والشكر في جميع الأحوال: الإيمان الدائم هو إيمان يتحلى بالصبر في الشدائد ويشكر الله على النعم. الشكر في الرخاء يبعد الإنسان عن الغرور والغفلة ويؤدي إلى زيادة النعم الإلهية. والصبر في المصائب لا يؤدي فقط إلى الأجر الإلهي، بل يقوي روح الإنسان ويزيد من متانة علاقته بالله. 4. التوكل والاعتماد على الله: التوكل على الله في جميع أمور الحياة، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، هو علامة على الإيمان الحقيقي. عندما يعلم الإنسان أن كل شيء في يد القدرة الإلهية المطلقة وأن الله يريد الخير والصلاح لعباده، فإنه يجد الطمأنينة ويتحرر من القلق الدنيوي. هذا التوكل يحول الإيمان من حالة سلبية في الأزمات إلى حالة نشطة وديناميكية في جميع مراحل الحياة. 5. التفكر في آيات الآفاق والأنفس: يدعو القرآن الإنسان مرارًا إلى التفكر في خلق السماوات والأرض، وفي الإنسان نفسه، وفي الآيات الإلهية. يساعد هذا التفكر الإنسان على فهم عظمة الله بشكل أفضل وأن يكون واعيًا باستمرار لوجوده في العالم وفي حياته. هذا الوعي يزيل الغفلة ويحول الإيمان إلى عنصر دائم في وجود الإنسان. 6. فعل الخيرات وخدمة الخلق: الإيمان الحقيقي لا يقتصر على العبادات الفردية، بل يتجلى أيضًا في العمل وخدمة الإنسانية. مساعدة المحتاجين، والإحسان إلى الوالدين، وأي عمل خير، لا يجلب الأجر الأخروي فحسب، بل يقوي اتصال الإنسان بالله ويزكي الإيمان في سياق العمل. في الختام، إن نشاط الإيمان فقط في الأزمات هو تذكير مهم بأن الإنسان يجب أن يسعى دائمًا للنمو والتكامل الروحي. الإيمان الحقيقي هو الذي يشع نوره ليس فقط في أوج اليأس، بل أيضًا في أوج الرخاء والنعمة، ويوجه القلب والروح دائمًا نحو الخالق المتعال. هذا المسار هو رحلة مستمرة، وبالجهد الدؤوب والوعي العميق والتوكل الخالص على الله، يصل إلى الكمال ويمنح الإنسان سلامًا لا مثيل له ودائمًا. الإيمان الدائم هو درع الإنسان ضد عواصف الحياة ونور هدايته في الظلمات والأنوار.
يُروى أن ملكًا عادلًا أصابه مرض عضال. يئس الأطباء من شفائه، ولم يبقَ له حيلة إلا التضرع والابتهال إلى الله. فرفع يديه، وبأنين وتنهدات وإخلاص نية، طلب الشفاء من الله، ووعد بأنه إذا شُفي، سيقضي حياته كلها في الشكر والطاعة لله، ويتجنب الغفلة. شاء القدر أن يشفيه الله، فنهض من فراش مرضه. ولكن لم يلبث طويلًا حتى ألقت العافية ستار الغفلة على قلبه، ونسي عهوده ومواثيقه، وعاد إلى لهوه وملذاته الدنيوية. فجاءه أحد الدرويشين العارفين الذي علم بحاله، وقال له: 'أيها الملك! ألم تكن على فراش الألم لا تذكر سوى الله وتقطع عهود الطاعة؟ والآن وقد استعدت قوتك وسلطانك، أنسيت الله؟ اعلم أن الراحة بلا شكر هي مقدمة لمشقة أخرى، وأن الغفلة في العافية أسوأ من النسيان في المحنة. السعادة الحقيقية ليست في التوجه إلى الله في الشدائد، بل في عدم نسيانه حتى في أوقات الرخاء.' فتعظ الملك بكلام الدرويش، ومنذ ذلك الحين اجتهد أن يحافظ على ذكر الله في قلبه في جميع الأحوال، سواء في الشدة أو الرخاء، وألا يخرج عن طريق العبودية.