كيف أوازن بين القضاء والقدر والاختيار؟

الموازنة بين القضاء والقدر والإرادة الحرة في الإسلام تعني فهم تعايشهما المتناغم. هذا يعني أن نسعى بكل جهدنا ونتخذ خيارات مسؤولة، ثم نتوكل على الله في النتائج ونرضى بقضائه وقدره.

إجابة القرآن

كيف أوازن بين القضاء والقدر والاختيار؟

إنّ مسألة كيفية الموازنة بين القضاء والقدر الإلهيين وبين الإرادة الحرة للإنسان (الاختيار) هي إحدى أعمق وأكثر المواضيع اللاهوتية تداولاً في الإسلام. لا يكمن الحل في إيجاد نقطة وسطى بين فكرتين متضادتين، بل في فهم تعايشهما المتناغم ضمن الخطة الإلهية الكاملة والمعقدة. يقدم القرآن الكريم إرشادات تشجع كلاً من الجهد والاتكال، والمسؤولية والخضوع، راسماً صورة شاملة للوجود الإنساني ضمن المخطط الإلهي. لنبدأ بفهم القضاء والقدر. "القدر" أو التقدير الإلهي، يشير إلى علم الله اللامحدود بجميع الأحداث، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، وإلى تقديره المسبق لكل شيء. إنه يشمل كل ما سيحدث، من حركة ورقة شجر إلى مصير الأمم. أما "القضاء" أو الأمر الإلهي، فهو تحقيق أو تنفيذ ذلك التقدير المسبق. إنه إيجاد ما أراده الله وعلمه مسبقاً. لكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن البشر مجرد روبوتات تؤدي سيناريو محدداً سلفاً. بل على العكس تماماً، فالله، بحكمته وعدله اللامحدودين، قد منح البشرية هدية فريدة: الإرادة الحرة (الاختيار). هذه الإرادة الحرة مذكورة ومُشار إليها صراحةً وضمناً في جميع أنحاء القرآن الكريم. فآيات مثل "إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا" (سورة الإنسان، الآية 3) تظهر بوضوح أن البشر قد مُنحوا القدرة على اختيار طريقهم. يمكنهم أن يختاروا الإيمان أو الكفر، وأن يفعلوا الخير أو الشر. إن مفهوم المساءلة والمكافأة والعقاب في الآخرة، وهو أمر أساسي في العقيدة الإسلامية، يقوم على وجود هذه الإرادة الحرة. لو لم يكن للبشر خيار، لكانت مساءلتهم أمراً ظالماً، والله منزه عن الظلم. لذلك، فإن خياراتنا وأفعالنا ونوايانا حقيقية، ومؤثرة، ومسجلة. هذا التأكيد على الاختيار يرفع من قيمة الإنسان ويجعله مسؤولاً عن عواقب قراراته، وهو ما يميزه عن سائر المخلوقات. إذن، يكمن التوازن في فهم أن علم الله بما "سنختار" لا يزيل قدرتنا على "إجراء" هذا الاختيار. يمكن تصور الأمر كالتالي: المهندس المعماري يعلم تماماً كيف سيبدو المبنى ويعمل بمجرد اكتماله، وصولاً إلى آخر لبنة. لكن البنائين لا يزالون بحاجة إلى بذل الجهد لإنشائه، ولديهم الحرية في اتباع الخطط أو الانحراف عنها (على الرغم من أن الانحراف سيؤدي إلى عواقب سلبية). وبالمثل، فإن الله يعلم خياراتنا قبل أن نتخذها، ولكن هذا العلم المسبق لا يجبرنا على التصرف. عملية اتخاذ القرار لدينا حقيقية، والعواقب، في هذه الحياة وفي الآخرة، هي نتيجة مسارنا المختار. هذا الفهم يمنحنا راحة نفسية بأننا في عين الله، وأن مساعينا محسوبة، وأن النتيجة النهائية هي بيده تعالى. لتحقيق هذا التوازن عملياً، يُشجع المسلم على تجسيد مبدأين أساسيين: الجهد الجاد (السعي) والتوكل الكامل على الله (التوكل). 1. الجهد الجاد (السعي): يؤكد القرآن مراراً وتكراراً على أهمية الكد، والعمل الجاد، والمبادرة. "وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ" (سورة النجم، الآية 39). هذه الآية، من بين العديد من الآيات الأخرى، تسلط الضوء على أن تقدمنا الدنيوي والروحي يرتبط ارتباطاً مباشراً بجهدنا. عندما نواجه هدفاً، تحدياً، أو مشكلة، فإننا مأمورون باستخدام عقلنا ومواردنا وقدراتنا البدنية بأقصى ما نستطيع. يجب أن نخطط، وننفذ، ونتعلم، ونثابر. مجرد الجلوس وقول: "إذا كان مقدراً، فسيحدث"، دون بذل أي جهد، هو سوء فهم للتوكل ويشبه الإهمال. لقد علمنا النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) أن نربط جملنا ثم نتوكل على الله، مؤكداً على أن الجهد يسبق التوكل. خياراتنا في التعليم، والمهنة، والعلاقات، والصحة، والعبادة، كلها مجالات تلعب فيها إرادتنا الحرة وجهدنا دوراً حاسماً. نحن ملزمون أخلاقياً وشرعياً باتخاذ أفضل الخيارات الممكنة وبذل جهد صادق في السعي للخير وتجنب الشر. هذا النهج الاستباقي للحياة يعكس قبولنا للمسؤولية التي تأتي مع الإرادة الحرة. 2. التوكل الكامل (التوكل): بعد أن نبذل قصارى جهدنا، نضع ثقتنا بالكامل في الله فيما يتعلق بالنتيجة. هذا يعني قبول أن ليس كل شيء تحت سيطرتنا. هناك ظروف، وأحداث، ونتائج هي وحدها في يد الله. إذا، على الرغم من جهودنا الدؤوبة، لم تكن النتيجة كما نرغب، فإننا نقبلها بالصبر والرضا، مع العلم أن خطة الله كاملة وحكمته لا متناهية. هذا القبول (الرضا بالقضاء) ليس استسلاماً للكسل، بل اعتراف عميق بسيادة الله المطلقة. إنه يحررنا من القلق المفرط بشأن النتائج ويمكّننا من التركيز على العملية، مع العلم أن الحكم النهائي هو للخالق. على سبيل المثال، يزرع المزارع البذور، ويسقيها، ويعتني بالتربة (جهد)، لكنه يعتمد في النهاية على الله للحصول على المطر، وضوء الشمس، وحصاد وفير (توكل). هذا المزيج من الجهد والتوكل يعزز السلام الداخلي والصمود. علاوة على ذلك، تلعب "الدعاء" دوراً حاسماً في هذا التوازن. فبينما القدر هو علم الله المسبق، فإن الدعاء وسيلة يمكننا من خلالها التفاعل مع القدر نفسه. علمنا النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) أن "لا يرد القضاء إلا الدعاء". هذا يعني أنه بينما يعلم الله ما سيحدث، فإنه يعلم أيضاً أننا سندعو، وقد يغير قضاءً بناءً على تلك الدعاء. هذا يشجعنا على التوجه دائماً إلى الله، والتعبير عن حاجاتنا، والبحث عن عونه، مما يقوي وكالتنا واعتمادنا عليه. الدعاء هو جسر يربط بين إرادتنا والمشيئة الإلهية، مذكراً بقدرة الله اللامتناهية مع الحفاظ على حريتنا. باختصار، العيش حياة متوازنة وفقاً لتعاليم القرآن يعني العمل بيقين كامل وجهد في المجالات التي نتحكم فيها، واتخاذ خيارات واعية وصحيحة أخلاقياً، ثم تسليم النتيجة النهائية إلى الله بإيمان وقبول كامل. إنه يتعلق بأداء أدوارنا كوكلاء واعين ومسؤولين لله على الأرض، مع الاعتراف في الوقت نفسه بسيادته المطلقة. قد يجد العقل البشري صعوبة في فهم التعقيد اللانهائي لعلم الله المسبق وإرادتنا الحرة المتزامنة، ولكن الإرشاد العملي واضح: اسعوا، واتخذوا الخيارات الصالحة، وتوكلوا على ربكم. هذا النهج يؤدي إلى حياة ذات هدف وسلام ونمو روحي، ويحقق كلاً من إمكاناتنا البشرية وخضوعنا للإرادة الإلهية.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

يُروى أن درويشاً عاهد نفسه ألا يسعى لكسب رزقه أبداً، وأن يطلب رزقه من الله وحده، فجلس في زاوية وتفرغ للعبادة. مرت عليه أيام قليلة وقد غلبه الجوع. قال لنفسه: "كيف تجد الطيور والحيوانات الصامتة رزقها، وأنا درويش محروم؟" وبينما كان غارقاً في هذه الأفكار، مر به رجل صالح، فلما رأى ضعف الدرويش، أعطاه شيئاً من الطعام والماء. شكر الدرويش الرجل وتعجب من هذا الموقف. في تلك الليلة، عندما كان وحيداً، فكر في نفسه: "لو أني اجتهدت مثل الآخرين، لرزقني الله أكثر بلا شك. لقد أمر الله بالجهد وهو الذي يرزق." ومنذ ذلك اليوم، خرج الدرويش من عزلته، وطلب رزقه بعرق جبينه، ولم يتوانَ عن العمل والاجتهاد قط، وكان دائم الشكر لله الذي أعطى العبد الاختيار والرزق معاً.

الأسئلة ذات الصلة