هل الإيمان بدون محبة حقيقي؟

الإيمان الحقيقي في القرآن لا يمكن أن يكون بدون محبة؛ فمحبة الله وخلقه هي جوهر الإيمان، والإيمان الخالي منها يكون ناقصًا وبلا ثمر.

إجابة القرآن

هل الإيمان بدون محبة حقيقي؟

في صميم تعاليم القرآن الكريم، ليس الإيمان (الإيمان بالله) مجرد اعتقاد ذهني أو إقرار لفظي؛ بل هو حالة شاملة وديناميكية للقلب والروح تشمل كيان الإنسان كله وتتجلى في أفعاله وأقواله. وفي هذا السياق، ليست المحبة (الحب) مجرد عنصر لا يتجزأ من الإيمان، بل هي العمود الفقري وجوهر الإيمان ذاته. الإجابة الصريحة والقاطعة للقرآن على سؤال ما إذا كان الإيمان بدون محبة حقيقيًا، هي أن الإيمان الذي لا يُسقى من نبع المحبة الصافي سيكون ناقصًا وبلا روح، ولن يتمكن من أن يؤتي ثماره الحقيقية كما أراد الله تعالى. بعبارة أخرى، المحبة الحقيقية هي المعيار الأصدق لقياس الإيمان وعلامة نضجه واكتماله. يؤكد القرآن الكريم على هذه الصلة الوثيقة في آيات عديدة. من أبرز هذه الآيات، الآية ٢٤ من سورة التوبة، التي تقدم معيارًا عاليًا لقياس المحبة لله ولرسوله: "قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" (قل: إن كان آباؤكم، وأبناؤكم، وإخوانكم، وأزواجكم، وعشيرتكم، وأموال اكتسبتموها، وتجارة تخشون كسادها، ومساكن ترضونها، أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله، فانتظروا حتى يأتي الله بأمره؛ والله لا يهدي القوم الفاسقين). هذه الآية توضح بجلاء أن المحبة لله ورسوله يجب أن تكون مقدمة على جميع العلائق والممتلكات الدنيوية. إذا لم تكن هذه المحبة هي المحبة الحقيقية والأسمى في قلب الإنسان، فإن إيمانه يصبح موضع تساؤل. محبة الله تعني الطاعة المطلقة لأوامره، والشكر لنعمه التي لا تحصى، والاستسلام لإرادته الحكيمة. هذه المحبة هي التي تدفع الإنسان إلى أداء الأعمال الصالحة، واجتناب المحرمات، والسعي لرضوان الله. فالإيمان الذي لا ينبع من هذه المحبة هو مجرد مجموعة من القواعد الجامدة الخالية من الروح، التي تفتقر إلى القوة الدافعة اللازمة للتحول الداخلي والنمو الروحي. إضافة إلى محبة الله، يولي القرآن الكريم أهمية بالغة للمحبة والرحمة بين المؤمنين. في الآية ٥٤ من سورة المائدة نقرأ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" (يا أيها الذين آمنوا، من يرتد منكم عن دينه، فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه؛ أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين؛ يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء؛ والله واسع عليم). هذه الآية تقدم صورة جميلة للمجتمع المؤمن الذي يشكل فيه الحب المتبادل بين الله وعباده، وكذلك التواضع والرحمة فيما بينهم، العمود الفقري للعلاقات. الإيمان الذي لا يتجلى في اللطف، والعفو، والتسامح، والتعاطف مع الآخرين هو إيمان ناقص. كيف يمكن للمرء أن يدعي الإيمان بإله هو "الرحمن" و"الرحيم"، ومع ذلك يكون خاليًا من الرحمة والمحبة تجاه عباده؟ هذه الحقيقة تُذكر بوضوح أيضًا في الآية ٢٩ من سورة الفتح: "مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ..." (محمد رسول الله؛ والذين معه، أشداء على الكفار رحماء بينهم. تراهم ركعًا سجدًا يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا؛ سيماهم في وجوههم من أثر السجود. ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل...). هذه الآية تصف المؤمنين الحقيقيين بصفة "رحماء بينهم" (متراحمون فيما بينهم). وبالتالي، فإن اللطف والمحبة ليسا مجرد صفتين أخلاقيتين حسنتين، بل هما علامتان بارزتان لا غنى عنهما للإيمان الحقيقي. الإيمان الذي ترسخ في قلب الإنسان، سيثمر لا محالة ثمرة المحبة في علاقاته مع الآخرين. بدون هذه المحبة، سيكون الإيمان مجرد ادعاء لفظي أو مجموعة من الأفعال الظاهرية التي تفتقر إلى العمق والتأثير الحقيقي. لذا، فإن الإيمان والمحبة في المنظومة الفكرية القرآنية وجهان لعملة واحدة ولا ينفصلان. الإيمان الحقيقي بالله تعالى يؤدي بلا شك إلى محبة عميقة له وطاعة لأوامره. هذه المحبة هي الدافع والقوة المحركة الرئيسية لأداء الأعمال الصالحة، واجتناب الذنوب، والسعي لنيل رضوان الله. ومن ناحية أخرى، تمتد هذه المحبة لله لتشمل محبة خلقه أيضًا، وخاصة المؤمنين وجميع البشر. فمن أحب الله، أحب خلقه أيضًا وسيعاملهم برحمة وشفقة. والإيمان الخالي من هذه المحبة هو كشجرة بلا جذور لن تثمر أبدًا، أو بناء قائم على الرمال ينهار بأدنى عاصفة. في الختام، يمكن القول إن المحبة هي القلب النابض للإيمان. إنها المحبة التي تمنح الإيمان عمقًا، ومعنى، وديناميكية، وتحوله من مجرد اعتقاد إلى قوة فعالة وبناءة في الحياة الفردية والاجتماعية. بدون المحبة، سيكون الإيمان مجرد مجموعة من الطقوس والشعائر التي لا روح لها، وغير قادرة على إحداث تحول داخلي وخارجي. فإذن، الإيمان الحقيقي بدون محبة ليس فقط ناقصًا، بل بالمعنى الحقيقي للكلمة "غير حقيقي"؛ فقد فقد جوهره وروحه. إنها المحبة التي تجعل الإيمان حيًا، فعالًا، ومقبولًا في حضرة الله. والإيمان الذي يخلو من المحبة والشفقة تجاه خلق الله لا يمكنه أن يدعي محبة الخالق. هذان الجانبان متداخلان وينموان معًا.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

في قديم الزمان، بنى ملك مسجدًا فخمًا وافتخر به كثيرًا. في نفس المدينة، عاشت امرأة عجوز فقيرة، كل ما تملكه هو خيط صوف صغير. بقلب مليء بالمحبة الخالصة لربها، وضعت خيطها المتواضع في المسجد. في تلك الليلة، في المنام، أعلن صوت أن رحمة الله فُتحت على المسجد الذي بنته العجوز الفقيرة بخيط واحد، لأن محبتها القلبية كانت أثمن من أي بناء عظيم. تذكرنا هذه القصة بأن الإيمان الحقيقي متشابك مع المحبة الصادقة، وأن قيمة الأعمال تكمن في الحب والإخلاص الكامن في جوهرها.

الأسئلة ذات الصلة