تُعتبر مساعدة الآخرين أنانية عندما لا تكون النية الأساسية هي ابتغاء مرضاة الله، بل للتفاخر أو المنفعة الشخصية. أما إذا كانت النية خالصة لوجه الله، فإن الشعور بالرضا الداخلي هو مكافأة إلهية وليست أنانية.
في تعاليم القرآن الكريم الغنية والعميقة، تحتل مساعدة الآخرين والإحسان إلى الخلق مكانة رفيعة جدًا. يشجع القرآن المؤمنين على فعل الخير والتعاون والعطاء، ويعتبر ذلك من علامات الإيمان الصادق وطريقًا للتقرب إلى الله. لكن السؤال المطروح دقيق للغاية: هل يمكن أن تكون مساعدة الآخرين، خلف مظهرها الحسن، تخفي أنانية؟ إجابة القرآن على هذا السؤال، بشكل صريح وضمني، تتمحور حول مفهومي «النية» و «الإخلاص». ففي الإسلام، يُحكم على كل عمل، من العبادات إلى المعاملات الاجتماعية، بنيته. إذا كانت النية وراء مساعدة الآخرين هي كسب الشهرة، أو مدح الناس، أو المَنّ، أو حتى مجرد الشعور بالتفوق والرضا النفسي، دون أن يكون رضا الله تعالى هو الأولوية، فإن هذا العمل يفقد قيمته الحقيقية في نظر الله، ويمكن اعتباره شكلاً من «الأنانيّة الخفية». ينهى القرآن الكريم صراحة عن الرياء والتباهي في الإنفاق وتقديم المساعدة. في سورة البقرة، الآية 264، نقرأ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ۖ لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾. هذه الآية تُظهر بوضوح أن الإنفاق الذي يكون هدفه التباهي والرياء، حتى وإن كان ظاهره مساعدة، إلا أنه يكون مجردًا من القيمة الأخروية، وهو كالحجر الأملس الذي ينزل عليه المطر الغزير فيزيل كل ما عليه. هذا النوع من المساعدة، من المنظور القرآني، لا يحمل ثوابًا فحسب، بل يدل أيضًا على نقص في الإيمان والنية، وهو في الواقع نوع من الأنانية الروحية حيث يسعى الفرد لكسب الإعجاب والتقدير من الناس بدلاً من السعي وراء رضا الله. في المقابل، يمدح القرآن أولئك الذين لا يبتغون في مساعدة الآخرين إلا رضا الله وثوابه. في سورة الإنسان، الآيتان 8 و 9، يصف الله الأبرار (المحسنين) بقوله: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا. إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُم جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾. تحدد هذه الآيات المعيار الأساسي: «لوجه الله»، أي «فقط لمرضاة الله». عندما تُقدم المساعدة بهذه النية، فلا يمكن اعتبارها أنانية. بل إن هذا النوع من المساعدة يمثل قمة الإيثار والتضحية، حيث يتجاوز الفرد رغباته النفسية لتحقيق رضا الخالق. من ناحية أخرى، يجب الانتباه إلى أن الشعور الجيد والرضا الداخلي الذي ينتاب الإنسان بعد مساعدة الآخرين ليس بالضرورة دليلاً على الأنانية. هذا الشعور هو مكافأة يضعها الله للأعمال الصالحة، وهو حافز طبيعي لاستمرار فعل الخير. إذا لم يكن هذا الشعور هو الهدف الأساسي للفرد من المساعدة، بل كان نتيجة ثانوية ومكافأة من الله، فلا حرج في ذلك. في سورة البقرة، الآية 272، يقول القرآن: ﴿وَمَا تُنفِقُوا مِن خَیْرٍ فَلِأَنفُسِکُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن خَیْرٍ یُوَفَّ إِلَیْکُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾. تُظهر هذه الآية أن كل إنفاق للخير لوجه الله يعود بالنفع على الإنسان نفسه، في الدنيا والآخرة. هذا «النفع» هو جزء متأصل في العمل الصالح ولا يجعله أنانيًا، بل هو وعد من الله بمكافأة العمل الخالص. تكمن الأنانية عندما يكون الهدف الرئيسي هو كسب هذا النفع الشخصي (سواء كان ماديًا، أو شهرة، أو شعورًا بالتفوق)، وليس رضا الخالق. لذا، يمكن أن تكون مساعدة الآخرين، من منظور القرآن، تحمل جانبًا من الأنانية الخفية فقط عندما تكون النية الأساسية منها شيئًا آخر غير السعي وراء رضا الله تعالى. أي عندما يسعى الفرد إلى المديح، أو الشهرة، أو المَنّ، أو أي منفعة دنيوية أو حتى نفسية تخرج عن إطار رضا الله. أما إذا كانت النية خالصة وكان الهدف الوحيد هو تحقيق رضا الله، فحتى لو نتج عن ذلك شعور بالرضا والسلام الداخلي للفرد، فهذا ليس أنانية، بل هو من فضل الله ومكافآته التي ينالها العبد المخلص. في الختام، يؤكد القرآن على القلب والنية في الأعمال، وليس فقط على مظهرها. فالعمل الصالح بلا نية خالصة هو كجسد بلا روح، لا قيمة حقيقية له. لذلك، لكي تكون مساعدتنا للآخرين إيثارية وإلهية حقًا، يجب علينا دائمًا مراجعة وتصفية نياتنا أمام الله تعالى.
يُروى أنه في الأزمنة القديمة، كان يعيش في مدينة تاجران. أحدهما كان يُدعى «سخيّ بخش» (كثير العطاء)، وكلما أنفق صدقة، أرسل المنادين ليعلنوا الخبر، وتُقام الولائم لكي يُذكر اسمه بالخير بين الناس. كان الناس يثنون عليه، وكان هو يستمتع بهذا الثناء. أما الآخر، فكان رجلاً بسيط القلب يُدعى «خالص النية»، الذي كلما رأى محتاجًا، ساعده في الخفاء وبتواضع، ولم يشهد على ذلك أحدٌ إلا الله. في أحد الأيام، مرض سخيّ بخش، ومع كل إنفاقه، لم يجد قلبه سكينة وكان يخشى المستقبل. أما خالص النية، فرغم قلة ماله، كان دائمًا هادئًا وسعيدًا. عندما سُئل خالص النية: «كيف أنت بهذا الهدوء والرضا مع قلة مالك؟» قال: «ما أعطيته لله، قد أروى قلبي. حاجتي الوحيدة هي رضاه، وبما أنني أسعى إليها في كل خطوة، فلا حاجة لي بثناء الخلق.» عندئذٍ، اتضح أن النية الخالصة هي جوهرة تجلب السلام الأبدي، حتى لو كانت في الخفاء.