يأمر القرآن بالتذكير بحكمة ولطف، وينصح بالتغاضي والإعراض عندما يكون التذكير عديم الفائدة أو ضاراً؛ وهذا يتطلب بصيرة وحكمة.
في تعاليم القرآن الكريم، تحظى هداية وتربية البشر بأهمية خاصة. يهدي الله تعالى عباده إلى الحق والفضيلة، ويطلب منهم أن يعين بعضهم بعضاً في هذا المسار. هذه المعاونة تشمل مبدأ "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، والذي يعني الدعوة إلى الخيرات والنهي عن الشرور. من هذا المنطلق، يعتبر التذكير والنصيحة جزءاً من الواجبات الهامة لكل مسلم تجاه أخيه المسلم وتجاه المجتمع. يأمر القرآن صراحة المؤمنين بـ "تَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ" (سورة العصر، الآية 3)، ويعد المجتمع ناجحاً الذي "يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ" (سورة آل عمران، الآية 104). هذه الآيات، وغيرها الكثير، تدل على ضرورة التذكير والإنذار في سبيل الصلاح والفلاح. لكن القرآن لا يقتصر على التأكيد على التذكير المطلق، بل يولي أهمية كبيرة لكيفية التذكير وتوقيته. هنا يدخل مفهوم "التغاضي" أو "الإعراض" بمعنى عدم المواجهة المباشرة والتجاوز. يقول الله تعالى في سورة النحل (الآية 125): "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ". تحدد هذه الآية مبادئ أساسية للدعوة إلى سبيل الله والتذكير: بالحكمة، وبالموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن. الحكمة تعني الفهم العميق للموقف والوقت وشخصية المخاطب، والتأثير المحتمل للكلام. الموعظة الحسنة تعني التحدث بلين، ولطف، وتعاطف، ودون لوم أو إهانة. تشير هذه المبادئ إلى أن التذكير لا ينبغي أن يكون مجرد رد فعل ميكانيكي، بل يجب أن يتم ببصيرة وهدف. في كثير من الحالات، يمكن أن يؤدي التذكير المباشر وغير المراعِي للظروف إلى نتائج عكسية. إذا كان الشخص ليس في حالة نفسية مناسبة، أو إذا كان خطؤه ناتجاً عن جهل لا عن عناد، أو إذا كان التذكير سيؤدي إلى العناد، أو العداوة، أو ضياع الكرامة، فإن التغاضي والتجاوز يكون أكثر حكمة وفعالية. يقول الله تعالى في سورة الأعراف (الآية 199) مخاطباً النبي محمد (صلى الله عليه وسلم): "خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ". تحتوي هذه الآية على ثلاثة أوامر مهمة: اعفُ، وأمر بالمعروف، وأعرض عن الجاهلين. "الإعراض عن الجاهلين" يعني تحديداً تجاهل السلوكيات غير الناضجة أو المستفزة للأشخاص الجاهلين وعدم الدخول في نزاع معهم. هذا النهج ليس ناتجاً عن عدم مبالاة، بل عن حكمة، لمنع تفاقم الخلاف وإضاعة الوقت والجهد. كما يصف القرآن صفات "عباد الرحمن" (عباد الله المخصوصين) في سورة الفرقان (الآية 63) بقوله: "وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا". أي أن عباد الرحمن هم الذين يمشون على الأرض بسكينة وتواضع، وإذا خاطبهم الجاهلون (وتحدثوا بكلام غير لائق)، فإنهم لا يجيبون إلا بـ "سلاماً". تشير هذه الآية أيضاً إلى أنه في مواجهة الكلمات العبثية أو المسيئة، فإن أفضل استجابة يمكن أن تكون التغاضي وتجنب النزاع. هذا التغاضي ليس علامة ضعف، بل هو قمة قوة النفس والحكمة؛ قوة تمكن الفرد من تجنب نار الخصومات العبثية والحفاظ على سلامته وسلامة المجتمع. لذلك، يمكن استنتاج أن القرآن الكريم يعلّم مقاربة متوازنة وحكيمة في هذا الشأن. التذكير والنصيحة واجبان وضروريان في مكانهما، ولكن يجب أن يتمّا بحكمة، ولطف، وبأفضل طريقة. في الظروف التي يكون فيها التذكير عديم الفائدة، أو يؤدي إلى ضرر أكبر، أو إذا كان المخاطب غير متقبل، فإن التغاضي والإعراض هو الحل الأفضل. هذا التغاضي لا يعني اللامبالاة بالحق والباطل، بل هو تكتيك ذكي لإدارة العلاقات، والحفاظ على السلام، ومنع تعميق الضغائن. يمنح هذا النهج الفرد فرصة ليكون أكثر تأثيراً على المدى الطويل من خلال المثال العملي، والسلوك الحسن، والصبر. إنه فن الحياة أن نعرف متى نتكلم ومتى نصمت؛ متى نذكّر ومتى نتجاوز عن خطأ، على أمل أن يصلح الشخص نفسه، أو أن تتهيأ الظروف لتذكير أكثر فاعلية في المستقبل. هذه الحكمة لا تنطبق فقط على العلاقات الفردية، بل على إدارة المجتمع والعلاقات الدولية أيضاً، وتسعى دائماً لتحقيق أقصى الخير وأقل الضرر.
في گلستان سعدي، يُحكى أن ملكًا عادلاً كان له خادم. كلما أخطأ الخادم، لم يعنّفه الملك بشدة، بل كان أحياناً بنظرة ذات مغزى وأحياناً بصمت، يجعله يفهم أن خطأً قد حدث. ذات يوم، بينما كان الخادم يخدم الملك، أسقط كأس الخمر وكسره. توقع الوزراء أن يغضب الملك ويعاقب الخادم. لكن الملك ابتسم فقط وقال: "لعل هذا الكسر، من تلك الكسور التي تحمل درساً عظيماً." الخادم، الذي كان يشعر بالخجل والحسرة، عمل بعد ذلك بدقة وحرص أكبر ولم يرتكب أي خطأ آخر أبداً. أدرك الملك أن التغاضي عن خطأ والعفو عنه أحياناً، أفضل من مائة تذكير وعقاب، لأنه يرشد القلوب ويوجه الإنسان نحو الصلاح من داخله.