اللامبالاة تجاه الخير في القرآن تنبع من التعلق المفرط بالدنيا، قسوة القلوب، اتباع الهوى، التكبر، ووساوس الشيطان، وكلها متجذرة في ضعف الإيمان، مما يبعد الأفراد عن الهداية والسعادة الحقيقية.
إن السؤال عن سبب لامبالاة بعض الأفراد تجاه الخير والنفع هو تساؤل عميق وجوهري يمكن العثور على جذوره في تعاليم القرآن الكريم الشاملة. لا يشير القرآن إلى هذه الظاهرة فحسب، بل يوضح أسبابها وعواملها بوضوح وشفافية. إن مفهوم «الخير» في القرآن واسع النطاق، ويشمل كل عمل فاضل، وإيمان، وأعمال صالحة، ومساعدة الآخرين، والسعي لتحقيق العدالة، والصدق، وكل ما ينال رضى الله. إن اللامبالاة تجاه هذه الأمور، من منظور قرآني، تنبع من أمراض روحية وقلبية قد يصاب بها الإنسان في مسار حياته. من أهم أسباب هذه اللامبالاة هو **التعلق المفرط بالحياة الدنيا ونسيان الآخرة**. يحذر القرآن مرارًا وتكرارًا من أن زينة الدنيا، مثل المال، والأبناء، والمكانة، والملذات الزائلة، يمكن أن تصرف الإنسان عن الغرض الأساسي من خلقه ومسؤولياته. ففي سورة آل عمران، الآية 14، يصف الله هذه التعلقات بجمال، ويذكر أنها متاع الحياة الدنيا، وأن حسن المآب عند الله. عندما يركز الإنسان كل اهتمامه وجهده على جمع الثروات، واكتساب السلطة، وإشباع الشهوات الدنيوية، لا يبقى لديه مجال للتفكير في إيصال الخير للآخرين، أو أداء العبادات بإخلاص، أو الاهتمام بالحقوق الإلهية والإنسانية. يؤدي هذا الغفلة التدريجية إلى تلاشي قبح اللامبالاة في نظره، فيعتبر الأعمال الصالحة غير مهمة أو حتى مزعجة. يغرق هؤلاء الأفراد في دوامة الرغبات المادية لدرجة أن كل نداء للخير والحق يصبح صامتًا في آذانهم، وتصبح القيم الروحية بلا معنى بالنسبة لهم. تؤدي هذه الحالة إلى نوع من العمى الروحي، حيث لا يستطيع الفرد تمييز الخير من الشر، أو حتى لو استطاع، فإنه يفتقر إلى الدافع للتحرك نحوه. العامل الأساسي الثاني هو **قسوة القلوب وغلظتها**. يوضح القرآن الكريم هذه الظاهرة جليًا. ففي سورة البقرة، الآية 74، بعد ذكر قصة قوم موسى عليه السلام، يقول الله إن قلوبهم قست بعد ذلك، فصارت كالحجارة أو أشد قسوة. قسوة القلب هي حالة يصبح فيها قلب الإنسان غير قادر على فهم الحقائق، وقبول الموعظة، والشعور بالشفقة والرحمة تجاه الآخرين. هذه القسوة نتيجة للذنوب المتكررة، والإصرار على الخطأ، وتجاهل آيات الله، والإصرار على العصيان. عندما يقسو القلب، لا يعود نور الهداية يجد طريقًا إليه، ويصبح الفرد غير مبال بآلام الآخرين ومعاناتهم، أو حتى بعواقب أعماله السيئة. القلب الذي قسى لا يعود قادرًا على إدراك اللطائف الروحية وجمال الخير، وكحجر صلد، لا يتأثر بمطر الرحمة والهداية. **اتباع الهوى والشهوات** هو أيضًا من العوامل المهمة لللامبالاة. يلوم القرآن الكريم تلك الفئة من الناس الذين يتبعون أهواءهم النفسية فقط بدلًا من اتباع الوحي الإلهي والعقل السليم. في سورة الجاثية، الآية 23، يذكر الله أولئك الذين اتخذوا أهواءهم إلهًا لهم. عندما يقدم الإنسان هواه على أي شيء آخر، فإن أي عمل يتعارض مع مصالحه وملذاته الشخصية يتم تركه، حتى لو كان ذلك العمل خيرًا وصالحًا. يؤدي هذا الاتباع الأعمى للنفس إلى حجب بصيرة الإنسان ويمنعه من رؤية الحقائق وإدراك القيم الأخلاقية. ونتيجة هذا الاتباع هو الوقوع في فخ الضلال واللامبالاة تجاه الخير، لأن أي عمل لا يعتبر مفيدًا من وجهة نظر النفس، يتم التخلي عنه. عامل آخر يشير إليه القرآن هو **التكبر والاستكبار**. ففي سورة الأعراف، الآية 146، يقول الله إنه سيصرف عن آياته أولئك الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق. يرى الأفراد المتكبرون، بسبب غرورهم وعظمتهم، أنفسهم أسمى من الآخرين، ولا يشعرون بحاجة إلى الهداية أو فعل الخير للآخرين. يعتقدون أنهم مكتفون ذاتيًا ولا يحتاجون إلى النمو الروحي أو مساعدة الآخرين. يمنع هذا التكبر التواضع أمام الحق وقبول المسؤوليات الاجتماعية والأخلاقية، ويوقع الفرد في فخ الأنانية واللامبالاة. وحتى لو رأى هؤلاء الأشخاص علامات الحق وطريق الخير، فإنهم يديرون عنها ظهورهم، لأنهم يعتبرون قبولها دون شأنهم. تؤدي **وساوس الشيطان** أيضًا دورًا حاسمًا في تنمية اللامبالاة. يسعى الشيطان باستمرار إلى إضلال الناس عن طريق الحق والخير من خلال تزيين الأعمال السيئة، والتقليل من شأن الأعمال الحسنة. يطلق وعودًا كاذبة ويجر الإنسان نحو الخطيئة والغفلة. تكون اللامبالاة تجاه الخير أحيانًا نتيجة لهذه الوساوس التي تجعل الأعمال الصالحة تبدو صعبة وغير مهمة، مما يدفع الأفراد إلى السعي وراء الملذات الزائلة والذنوب بدلًا من ذلك. يضل الشيطان الناس عن طريق الخير بزرع اليأس والتقليل من قيمة الأعمال الصالحة. في النهاية، يعد **ضعف الإيمان أو فقده** هو السبب الجذري لجميع هذه العوامل. فالإيمان الذي لا يكون راسخًا في القلب لا يمكن أن يكون دافعًا قويًا لفعل الخير والابتعاد عن الشر. عندما يضعف الإيمان، تقوى التعلقات الدنيوية، ويصبح القلب مستعدًا للقسوة، ويحكم الهوى، ويكون لوساوس الشيطان تأثير أكبر. يؤكد القرآن باستمرار أن الخلاص والسعادة يعتمدان على الإيمان والعمل الصالح. اللامبالاة تجاه الخير هي في الواقع ابتعاد عن طريق السعادة. يعرض القرآن الكريم، من خلال قصص مختلفة، عواقب اللامبالاة أيضًا ويحذر من أن هذه الحالة يمكن أن تؤدي إلى الحرمان من الرحمة الإلهية والعقاب في الآخرة. لذلك، فإن محاربة اللامبالاة تتطلب تهذيب النفس، وتذكر الآخرة، والابتعاد عن الذنوب، وتقوية الإيمان من خلال العبادات والتفكر في آيات الله. هذه اللامبالاة لا تضر الفرد فحسب، بل تحرم المجتمع أيضًا من بركات وجود أناس خيرين.
ذات يوم، في سوق حلب الصاخب، التقى درويش فقير برجل ثري لم يكن يعرف من الدنيا سوى تكديس الثروات. فقال الدرويش للرجل الثري بنبرة دافئة وودية: «يا صاحبي! سمعت أن ممتلكاتك واسعة، ولكن يقال إنك لا تمد يدًا للخير ولم يأتِ منك خير لأحد. كيف يمكن للمرء أن يمتلك كل هذا الثراء ولا يستخدمه لمساعدة الآخرين أو للقيام بالأعمال الصالحة؟» غضب الرجل الثري من هذا الكلام، وأجاب بغرور: «أنت الفقير والعاجز الذي لا يستطيع أن يفعل شيئًا، لا أنا!» فقال الدرويش بابتسامة حكيمة: «أنا فقير ولا أملك مالًا لأعطي، فعجزي مبرر. أما أنت الذي أنعم الله عليك بفضله العميم، لماذا بقيت غير مبالٍ؟ لماذا لا تمد يد الخير؟» تذكرنا هذه الحكاية من سعدي الشيرازي ببراعة أن اللامبالاة تجاه الخير ليست دائمًا بسبب نقص المال، بل هي بسبب فقر القلب والغفلة عن المسؤوليات التي أوكلها الله للإنسان.