غضب البعض من خير الآخرين ينبع من أمراض قلبية كالحسد والكبر والنفاق. هذه الصفات السلبية تمنع رؤية الفضل الإلهي والشكر، وتضر بالغاضب أكثر من أي شخص آخر.
إن الغضب من خير الآخرين ظاهرة قد تبدو غريبة للوهلة الأولى، ولكن لها جذور عميقة في النفس البشرية وأمراض القلب الروحية التي يشير إليها القرآن الكريم بوضوح. فالقرآن، ككتاب هداية وشفاء للصدور، يقدم تحليلاً دقيقاً وعميقاً للنفس البشرية، ويوضح العوامل الكامنة وراء مثل هذه الردود السلبية. هذا الغضب ينبع عادة من أمراض مثل الحسد، الكبر، النفاق، وضعف الإيمان، وكل منها يمنع بطريقته الخاصة الفهم الصحيح والقبول والفرح بالخير والإحسان الذي يناله الآخرون. أحد الأسباب الرئيسية والأكثر وضوحًا لهذا التفاعل السلبي هو **الحسد**. الحسد، الذي يعني تمني زوال النعمة عن الآخر وانتقالها إلى النفس، أو مجرد تمني زوالها، هو من أشد الأمراض الروحية فتكًا التي تأكل الإنسان من داخله. لقد ذم القرآن الكريم الحسد مرارًا وتكرارًا واعتبره من الشرور العظيمة. في سورة الفلق، الآية 5، يأمر الله النبي والمؤمنين بالاستعاذة به من شر حاسد إذا حسد: "وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ". هذه الآية تبين بوضوح أن الحسد يمكن أن يكون مصدر شر وضرر. فالحسد يدفع الإنسان، بدلاً من أن يشكر الله على نعمه ويسعى لتحصيل الخير، إلى هاوية الاستياء والغضب تجاه نجاحات الآخرين وخيرهم. مثل هذا الشخص لا يطيق أن يرى غيره يتمتع بنعمة، وهذا ما يشعل نار الغضب في داخله. الحسود غالبًا ما يقارن نفسه بالآخرين، وبدلاً من أن يركز على تقدمه الشخصي، يحدق في ما يمتلكه الآخرون، ويتألم ويغضب من عدم امتلاكه لتلك النعمة، أو من أن غيره قد سبقه. هذا الاستياء يؤدي في النهاية إلى العداوة، والنميمة، وحتى محاولة إيذاء الطرف الآخر، كما ورد في القرآن بشأن حسد أهل الكتاب للمسلمين. ففي سورة البقرة، الآية 109، نقرأ: "وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ..." هذه الآية تظهر بوضوح أن الحسد يمكن أن يصل إلى حد تمني الضلال والشقاء للآخرين، وهذا متجذر في العناد والغضب الداخلي. العامل الثاني المهم هو **الكبر والغرور**. فالشخص المتكبر يرى نفسه أعلى من الآخرين ولا يمكنه أن يتقبل أن يحقق شخص آخر، خاصة من يظنه أقل منه شأناً، أي خير أو نجاح. الكبر يعمي عيني الإنسان عن الحقيقة ويمنعه من رؤية الفضل الإلهي والحكمة في توزيع النعم. قصة إبليس، الذي رفض السجود لآدم بسبب كبره وشعوره بالتفوق في الخلق على آدم، هي من أهم الدروس القرآنية في هذا الصدد. فقد رأى نفسه أفضل لأنه "خُلق من نار وآدم خُلق من طين"، فعصى هذا الأمر الإلهي الذي كان يظهر كرامة آدم، وبدأ عداوته. الكبر يمنع الإنسان من أن يكون متواضعًا أمام النعمة التي أنعم الله بها على غيره، وبدلاً من الفرح، ينظر إليها بغضب وعناد. في سورة الأعراف، الآية 12، يقول الله تعالى: "قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ". هذه الآية تبين أن الكبر يتجذر في الشعور الزائف بالتفوق، مما يؤدي إلى العداء للحق والخير. السبب الثالث هو **النفاق وضعف الإيمان**. فالأشخاص الذين آمنوا ظاهريًا ولكنهم يفتقرون إلى قناعة داخلية قوية، أو لديهم عداوة خفية للحقيقة وأهل الإيمان، يغضبون من خير المؤمنين ونجاحاتهم. إنهم يرون الخير والبر بمثابة تهديد لمكانتهم أو لمعتقداتهم الباطلة. في سورة آل عمران، الآية 120، يشير الله بوضوح إلى هذه الحالة: "إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا ۗ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ". هذه الآية تظهر بدقة أن غضب هؤلاء الأفراد من خير الآخرين ينبع من مرض قلبي وعدم إخلاص في نيتهم. فبدلاً من أن يدعوا للآخرين بالسعادة والرخاء، يتمنون زوال النعمة ووقوع المؤمنين في الشدة، وهذا يظهر أقصى درجات الخبث والعداوة الخفية. كذلك، يمكن أن يؤدي **التعلق المفرط بالدنيا وعدم القناعة** إلى هذا الغضب. فعندما يرى الإنسان أن المعيار الوحيد للنجاح هو الثروة والقوة والمكانة الدنيوية، ولا يكون قانعًا بما لديه في هذه الأمور، فإنه متى رأى آخر ينعم بخير أكثر منه، يصيبه عدم الرضا والحسد. هذا الاستياء الداخلي يظهر في شكل غضب وعداوة خارجية. فالقرآن يحذر البشر مرارًا وتكرارًا من التعلق المفرط بزينة الدنيا، ويؤكد على أهمية القناعة والرضا بقضاء الله وقدره. في الختام، هذا الغضب والاستياء من خير الآخرين لا يضر المحسود إلا قليلاً (إلا بمشيئة الله وإذنه ومن خلال المؤامرات المادية)، بل يضر الحاسد نفسه أكثر من أي شيء آخر. هذه الحالة الروحية تحرم الفرد من السلام الداخلي والسكينة، وتجعله في عذاب دائم من الداخل، وتعيق نموه الروحي وسعادته. والعلاج لهذه الأمراض القلبية هو بالعودة إلى المبادئ القرآنية: تنمية الشكر، والقناعة، والتواضع، وتصفية النوايا، والدعاء بالخير للآخرين، والتذكير بأن جميع النعم من عند الله وحكمته جارية في توزيعها. فقط بتغيير النظرة وتربية النفس يمكن استئصال هذه الأمراض المدمرة، وبدلاً من الغضب، يتم الحمد والثناء على الفضل الإلهي حيثما وجد.
يحكى أنه في الأزمنة الغابرة، عاش جاران متجاوران. كان أحدهما رجلاً كادحاً طيب القلب، وبجهد كبير، زرع بستاناً أخضر مثمراً، وقد انتشر صيته بالخير والبركة في الأرجاء. أما الجار الآخر، فكان رجلاً بدلاً من أن يشكر ربه على رزقه ويسعى لتحسين حاله، كان يحدق بعين الحسد في بستان جاره الوفير. فكلما حمل النسيم عبير الأزهار العطر أو رائحة الفاكهة الطازجة من بستان الرجل الطيب إلى أنفه، امتلأ قلبه بالأسى واشتعلت نار الغضب في نفسه. لم يستطع أن يرى جاره يعيش في وفرة وهدوء، ولم يفارقه هذا الحسد للحظة. يقول السعدي، بلسانه العذب: "العين الحاسدة التي تنظر إلى نعم الآخرين، العمى أفضل لها من أن تثقل قلبها بحمل ثقيل". هذا الرجل الحسود كان يعيش في عذاب ليل نهار ولم يذق طعم السلام أبدًا، لأن قلبه كان ملوثًا بالحقد والحسد. وبدلاً من أن يزرع بذور الخير بنفسه، كان يتمنى جفاف بستان جاره، وهذا التمني النجس دمر حياته. العبرة من هذه القصة هي أن الحسد، قبل أن يضر بالآخر، يقوض خيمة حياة الحاسد ويحول حلاوة الحياة إلى مرارة؛ فلننظف قلوبنا من هذه النجاسة لندرك لذة السلام وحب الخير.