نعم، يتقبل الله إخلاص الإنسان الناقص. فهو رحيم وغفور وعليم بضعف البشر، ويقدر الجهد الصادق والتوبة أكثر من الكمال المطلق.
إن التساؤل عما إذا كان الله يتقبل «الإخلاص الناقص» أو «الصدق غير التام» ينبع من عمق الروح البشرية، ويلامس أحد أكثر الجوانب حيوية في علاقتنا بخالقنا: القبول الإلهي رغم العيوب والقصور المتأصل في البشر. إن الإجابة على هذا السؤال ليست مهمة جداً من الناحية اللاهوتية فحسب، بل هي أيضاً بلسم لقلوب عدد لا يحصى من المؤمنين الذين يعانون من التحديات والزلات والصراعات الداخلية في طريقهم نحو الكمال الروحي. من منظور القرآن الكريم، فإن الله سبحانه وتعالى لا يتقبل صدقنا الناقص فحسب، بل إن رحمته ومغفرته واسعتان إلى درجة أنه يغفر حتى كبائر الذنوب عند التوبة الصادقة، فكيف بإخلاص لم يكتمل في بعض اللحظات، وهو غالباً ما ينبع من ضعف بشري طبيعي؟ لفهم هذه النقطة الحاسمة، يلزم فهم صحيح لذات الله وصفاته. فقد عرّف الله نفسه في القرآن بصفات مثل «أرحم الراحمين» (أشد الراحمين رحمة)، و«الغفور» (كثير الغفران)، و«الرحيم» (كثير الرحمة). وهو خالق الإنسان، وأعلم بضعفه ومحدوديته وطبيعته التي يكثر فيها الخطأ أكثر من أي أحد آخر. فالإنسان كائن مركب، يجمع بين الروح الإلهية والجسد الترابي، وهو في صراع دائم بين الطموحات السامية والرغبات الدنيوية. هذا الصراع يعني أحياناً أنه حتى في ذروة الأعمال الصالحة، قد تكون هناك آثار للأنانية، أو الرياء، أو عدم اكتمال نقاء النية. السؤال الأساسي هنا هو: هل هذا «النقص» يعني رفض العمل من قبل الله؟ بالتأكيد لا. إن الإرادة الإلهية تهدف إلى تسهيل الطريق وقبول الجهود الصادقة، لا إلى تثقيل التكاليف بما يفوق قدرة الإنسان. يؤكد القرآن الكريم مراراً وتكراراً على أهمية «الإخلاص». فالإخلاص يعني نقاء النية وأداء الأعمال خالصاً لوجه الله تعالى، دون أي شريك أو دافع دنيوي. في سورة البينة، الآية 5، يقول تعالى: «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ» (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة). تبين هذه الآية أن الإخلاص هو عمود الدين والعبادة. لكن هذا لا يعني رفض الجهود الناقصة أو مرحلة أولية من الإخلاص. فالإنسان في نمو وتطور روحي مستمر، وللإخلاص أيضاً مراتب؛ الوصول إلى الإخلاص المطلق والكامل هو غاية العارفين، ويتطلب رحلة طويلة ومستمرة. والله لا يطلب منا الكمال المطلق في اللحظة الأولى، بل يطلب منا أن نسير في هذا الدرب وأن نسعى جاهدين للوصول إليه. وهذا الجهد، حتى مع الزلات والقصور، هو قيّم في نظره ويحمل أجراً عظيماً. المهم هو الاتجاه والسعي المستمر. من أهم الآيات المحورية في الإجابة على هذا السؤال، الآية 53 من سورة الزمر، والتي تخاطب عباده بلهجة مليئة بالحب والأمل، فيقول تعالى: «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم). إن «الإسراف على النفس» يمكن أن يشمل أي تقصير، بما في ذلك القصور في تحقيق الإخلاص التام. ويؤكد الله في هذه الآية أنه يغفر «جميع الذنوب». إذا كان الله يغفر الذنوب، فبالتأكيد نقص مثل «الصدق غير التام» الذي غالباً ما ينبع من ضعف النفس لا من العناد والإصرار، هو موضع غفرانه وقبوله، شريطة أن يكون الفرد في طريق الإصلاح والتوبة المستمرة. هناك فرق جوهري بين النفاق والصدق الناقص. فالمنافق هو الذي يظهر التدين عمداً لخداع الآخرين، بينما قلبه خالٍ ودافعُه دنيوي؛ وهذا مذموم بشدة في القرآن. أما الصدق الناقص فيعني السعي الصادق لنيل رضا الله، ولكن بسبب الضعف البشري، قد تتداخل معه دوافع أخرى (لا شعورية أو غير مضبوطة). والله «بصير» و«عليم»؛ وهو يعلم تماماً النوايا الخفية في القلوب. وهو يفرق بين من يريد الإخلاص بصدق ولكنه عاجز ويسعى لتعويض ضعفه، وبين من ينافق عمداً أو يسعى لتحقيق أهداف غير إلهية. وتؤكد الآية 286 من سورة البقرة هذه الحقيقة أيضاً: «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا» (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها). هذا المبدأ القرآني يدل على أن الله لا يطلب منا أكثر مما نطيق. فإذا كان الإخلاص الكامل والخالي من العيوب في كل لحظة خارج قدرتنا، فإن الله لا يشدد علينا بلا داعٍ. والمطلوب منا هو الجهد، والمجاهدة، والمثابرة في طريق الإخلاص. فكل خطوة نخطوها في هذا الدرب، حتى لو كانت متذبذبة ولم تكتمل بعد، هي محفوظة عنده ولها أجر عظيم. المهم هو ألا نتخلى عن الطريق وأن نستمر في السعي لتطهير النية والعمل. لذا، أيها الصديق العزيز، إذا شعرت في مسيرتك نحو الله أن صدقك أو إخلاصك أحياناً يبقى ناقصاً، فلا تيأس أبداً. هذا جزء لا يتجزأ من الرحلة الروحية للإنسان. المهم هو ألا تستسلم للضعف، وألا تتوقف عن السعي، وأن تسأل الله باستمرار أن يطهر قلبك ويجعل نيتك خالصة. وفي كل مرة تدرك فيها قصوراً في إخلاصك، عد إليه فوراً، وتب، واطلب المغفرة. فالله تواب رحيم، وهو لا يتقبل صدقك الناقص فحسب، بل يقدّر جهودك لإتمامه ويكافئك عليها. إنه يحب القلب المنكسر الذي يقبل عليه بكل عيوبه أكثر من عبادة تبدو كاملة لكنها تخلو من روح الإخلاص. لذلك، بثقة تامة وأمل في رحمة الله الواسعة، استمر في طريقك، واعلم أن رحمة الله ومغفرته تشملان دائماً العباد المجتهدين والتوابين الذين قلوبهم، رغم عيوبها، متوجهة إليه.
يُروى أنه في الأزمنة القديمة، كان هناك عابد يُدعى «صادق» (بمعنى المخلص)، كان منشغلاً بالعبادة ليلاً ونهاراً. ولكن أحياناً، كانت تمر بقلبه وساوس من حب الظهور أو الأمل في ثناء الناس، وكان يحزن من هذه الحال. ذات يوم، جلس يبكي في خلوته وقال: «يا ربي! عباداتي ملوثة بالنقص، وإخلاصي غير تام. فهل تقبل مني هذا القلب المضطرب وهذه الأعمال الناقصة؟» في تلك الأثناء، مر شيخ حكيم من هناك وسمع نحيبه. اقترب الشيخ وقال: «يا صادق، لا تحزن قلبك! سمعت أن الخواجة عبد الله الأنصاري قال: 'لو كسرت توبتك مائة مرة، فارجع.' فالله مشترٍ للقلوب المنكسرة، لا للعمل الخالي من العيوب. تلك اللحظة التي ترى فيها نقصك وتعود إليه، هو يكمل هذا النقص أيضاً، لأن الصدق هو ألا تدور حول نفسك بل تتجه إليه.» فهدأ صادق بهذه الكلمات وعلم أن قيمة الأعمال ليست في كمال الظاهر، بل في صدق الباطن والتوجه نحو المحبوب الأوحد، حتى لو كان ذلك مصحوباً بالقصور. ومنذ ذلك الحين، انشغل بالعبادة بأمل أكبر، وكلما جاءته وسوسة، لجأ فوراً إلى الذكر والاستغفار، مدركاً أن الله هو القابل والرحيم.