الخوف من الناس القساة غالبًا ما ينبع من فهم سطحي لقوتهم المحدودة والغفلة عن قوة الله المطلقة. بينما خشية الله، هي نوع من الخوف الممزوج بالمعرفة والتعظيم، يمنح الإنسان السكينة والشجاعة ويحرره من المخاوف الباطلة.
هذا سؤال عميق ومثير للتأمل يتردد صداه في قلوب الكثيرين: لماذا يخاف الإنسان أحيانًا من الناس القساة والظالمين، بينما عظمة الله وقدرته المطلقة، وهو الخالق المدبر لكل شيء، لا تتجذر في كياننا كما ينبغي؟ هذه الظاهرة، وإن بدت متناقضة، لها جذور نفسية ومعرفية وإيمانية، وقد تناولها القرآن الكريم، مقدماً حلولاً للتحرر من هذه المخاوف الباطلة والخاطئة. في البداية، دعونا نفهم الفرق بين «الخوف من المخلوق» و«الخشية من الخالق». الخوف من الناس القساة غالبًا ما ينبع من إدراكنا لقوتهم المحدودة والمادية. فنحن نرى أنهم يستطيعون إيذاءنا جسديًا، أو سلب ممتلكاتنا، أو تشويه سمعتنا، أو حتى سلب حياتنا. هذه التهديدات ملموسة وقابلة للتصور الفوري، وتتشكل بناءً على تجاربنا الدنيوية. هذا النوع من الخوف هو «الخوف»؛ وهو خوف ينشأ عادةً من توقع ضرر أو خطر مادي ومحدد. الإنسان بطبيعته يخاف مما يمكن أن يؤذيه، وهذه آلية غريزية للبقاء. عندما يمثل شخص قوي وقاسٍ تهديدًا حقيقيًا وشيكًا، يستجيب جهازنا العصبي ونشعر بالخوف. وبسبب طبيعة هذا الخوف الدنيوية والملموسة، يمكن أن يكون قويًا ومشلًا، مما يؤدي إلى الشعور بالضعف والعجز أمام الظالم. حتى في بعض الحالات، فإن الشيطان يقوم، من خلال الوسوسة، بتعزيز هذا الخوف من المخلوقات في قلب الإنسان ليصرفه عن طريق الحق والتوكل على الله. يقول القرآن الكريم: "إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" (آل عمران، 175)؛ أي أن هذا الشيطان يخوّف أتباعه، فلا تخافوا منهم، وخافوني إن كنتم مؤمنين. هذه الآية تُظهر بوضوح أن الخوف من المخلوق (أولياء الشيطان) هو خداع شيطاني. أما الخوف من الله، فهو من نوع مختلف. هذا الخوف ليس من نوع الهلع والرعب المشل، بل هو من نوع "الخشية" و"التقوى". الخشية خوف ممزوج بالعلم والمعرفة والتعظيم. أي كلما زاد علم الإنسان وعرفته بعظمة الله وقدرته وعدله وحكمته وعلمه اللامتناهي، زاد خوفه من تجاوز أوامره وعصيانه. هذا الخوف بنّاء وليس مدمّرًا. إنه خوف يدفع الإنسان نحو مراعاة حدود الله، وأداء الواجبات، وترك المحرمات، والسعي لكسب رضا الرب. خشية الله تمنع الإنسان من ارتكاب المعاصي، لا من التحرك والتقدم في الحياة. في الواقع، هذا الخوف ليس خوفًا من أن يظلمنا الله – حاشا لله، فهو العدل المطلق – بل هو خوف من تقصيرنا في العبودية، وهيبة المقام الإلهي وعظمته. هذه الخشية تجعل الإنسان دائمًا يراقب أفعاله وأقواله، ويعلم أن لا شيء يخفى على الله، وأنه سيُحاسب يومًا أمامه. هذا الوعي محفّز وحامي، وليس سببًا للخوف والرعب من الحياة. أما عن سبب كون هذا النوع الثاني من الخوف (خشية الله) أقل رسوخًا في قلوبنا من الخوف من الناس القساة، فله أسباب متعددة. من أهم الأسباب الغفلة وضعف الإيمان. عندما ينغمس الإنسان في لذات الدنيا الزائلة ويغفل عن ذكر الله والآخرة، يصبح نظرته للحياة سطحية. في هذه الحالة، تبدو التهديدات المادية والدنيوية أعظم، لأنها الشيء الوحيد الذي يدركه بوضوح. تصبح قوة الله مجردة وبعيدة عن الذهن، بينما قوة الظالم ملموسة وحاضرة. ينسى الإنسان أن القوى الدنيوية مؤقتة وزائلة، ولا يستطيع أحد أن يؤذي آخر إلا بإذن الله وإرادته. "قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ" (التوبة، 51)؛ أي قل: لن يصيبنا إلا ما قدره الله لنا، هو مولانا وإليه مرجعنا، وعليه فليتوكل المؤمنون. هذه الآية وما شابهها تؤكد أن لا شيء يحدث دون إرادة إلهية، وأن التوكل على الله يزيل الخوف من غيره. سبب آخر هو عدم المعرفة الكافية بأسماء الله وصفاته. إذا تعرف الإنسان بعمق أكبر على الأسماء الحسنى مثل "القوي" و"الجبار" و"المنتقم"، وإلى جانبها "الرحمن" و"الرحيم" و"الغفور"، فسيدرك أن الله هو أعظم قوة في الكون، وهو أيضًا أرحم وأغفر. هذه المعرفة تجعل الخوف من غضبه وعذابه مصحوبًا بالأمل في رحمته ومغفرته، مما يحدث توازنًا في القلب. كذلك، فإن إدراك حقيقة أن البشر، مهما بلغوا من ظلم وقوة، هم في النهاية تحت سيطرة القدرة الإلهية ولا يمكنهم الخروج عن نطاق إرادته، يقلل من الخوف منهم. "وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" (يوسف، 21)؛ "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون." للتغلب على هذا الخوف غير المتوازن وتنمية الخشية الصحيحة من الله، يقدم القرآن الكريم حلولاً: أولاً، زيادة المعرفة والبصيرة بالله وصفاته. فكلما فكرنا أكثر في عظمة الله، وقدرته على كل شيء، وعلمه بالخفايا والظواهر، وعدله اللامتناهي، كلما ترسخت هيبته في قلوبنا، ونتيجة لذلك، كلما ازددنا حذرًا من مخالفته. ثانيًا، تقوية التوكل على الله. التوكل يعني الثقة الكاملة بالله في جميع الأمور، والإيمان بأنه خير معين وحافظ. عندما يتوكل الإنسان على الله بصدق، يعلم أنه لا قوة تستطيع أن تؤذيه دون إذنه، وهذا الاعتقاد يزيل الخوف من المخلوقات. ثالثًا، تذكر والتفكير في يوم القيامة وحساب الأعمال. عندما يعلم الإنسان أن كل عمل، سواء كان حسنًا أو سيئًا، سيُسجل في النهاية ويُحاسب عليه أمام الله، تتغير نظرته للحياة ومخاوفه. فالخوف من العذاب الأخروي والأمل في الأجر الإلهي من أكبر الدوافع للإنسان لمراعاة التقوى والتحرر من المخاوف الدنيوية. رابعًا، الانس بالقرآن وأداء العبادات. الصلاة، والدعاء، وتلاوة القرآن، وذكر الله، كلها تهدي القلوب وتُقوّي صلة الإنسان بخالقه. هذه الأعمال تجعل حضور الله أكثر وضوحًا في حياة الإنسان، مما يؤدي إلى تقليل الخوف من غير الله. في الختام، فإن الخوف من الناس القساة والظالمين هو علامة على نوع من الضعف في فهم قوة الله المطلقة وعدم التوكل الكامل عليه. بينما خشية الله هي علامة على كمال الإيمان وصحوة القلب. فالمؤمن الحقيقي، بمعرفته الصحيحة بخالقه وثقته به، لا يخاف من أي مخلوق، إلا من الذي ينبغي أن يُخاف؛ أي الله الذي كل شيء في قبضة قدرته، وهو المحاسب النهائي لأعمالنا. هذا التغيير في بؤرة الخوف لا يؤدي فقط إلى سلامة القلب والنفس، بل يمنح الإنسان الشجاعة والثبات في مواجهة الظلم والفساد، لأنه يعلم أن سنده قوة لا نهائية لا يمكن لأي ظالم أن يقاومها. هكذا، فإن الخوف من الله (الخشية) يجعل الإنسان قويًا وحرًا، ويحرره من أوهام المخاوف. وبالتالي، فإن حل هذا السؤال يكمن في تعميق الإيمان والتوكل والمعرفة الإلهية. فكلما اقتربنا من الله أكثر، تلاشت المخاوف غير المبررة من الدنيا وأهلها من قلوبنا، وحلت محلها السكينة والطمأنينة.
في گلستان سعدي، يُحكى أن ملكًا ظالمًا رأى درويشًا، بالرغم من فقره، كان يتمتع بوجه هادئ وقلب مطمئن. فقال له الملك بغرور: "يا درويش، ألا تخاف مني؟ أنا الذي أملك أن أسلب روحك وممتلكاتك!" فأجاب الدرويش بابتسامة هادئة: "أيها الملك! أنا لا أخشى من يخشى هو نفسه الموت وقوته زائلة. خوفي من الواحد الأحد الذي لا يموت ولا تذهب قوته؛ الذي بيده حياتك وحياتي. فمن عرفه، لا يخشى من أي مخلوق، لأنه يعلم أن كل القوى منه وإليه تعود." فاستفاق الملك من كلام الدرويش الحكيم وشجاعته، وأدرك أن الخوف مما هو فانٍ لا جدوى منه، وأن من يخشى الحق (أي خشية الله)، هو وحده الحر والشجاع.