يؤكد القرآن والسنة النبوية أن رحمة الله تسبق عدله، فقد كتب الله على نفسه الرحمة، وفتح أبواب التوبة والمغفرة لعباده. وعدله يعمل ضمن هذه الرحمة الواسعة لضمان النظام والأمل في العالم.
السؤال عما إذا كانت رحمة الله تسبق عدله هو أحد أعمق وأجمل النقاشات في اللاهوت الإسلامي، وقد تم التأكيد عليه بوضوح في آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية. الجواب الصريح والحاسم من منظور القرآن والسنة هو أن نعم، رحمة الله بلا شك تسبق وتتفوق على غضبه وعدله. هذه الحقيقة تشكل حجر الزاوية لأمل المؤمنين ومحور علاقة الإنسان بخالقه. يقدم القرآن الكريم الله باسمي "الرحمن" و "الرحيم"، وكلاهما مشتق من جذر "رحمة"، مما يدل على الشمولية والعمق اللانهائي للرحمة الإلهية. يتكرر هذان الاسمان المباركان في بداية كل سورة من القرآن (باستثناء سورة التوبة) وفي بداية كل عمل مهم يقوم به المسلمون، وهذا بحد ذاته شهادة على مركزية الرحمة في جوهر الإلهي. يقول الله تعالى صراحة في القرآن: «وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ۖ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» (الأنعام، الآية 54)؛ أي: «وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة». هذه الآية تشير إلى أن الرحمة ليست مجرد خيار، بل هي التزام إلهي فرضه الله على نفسه. علاوة على ذلك، في سورة الأعراف، الآية 156، يقول: «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ»؛ أي: «ورحمتي وسعت كل شيء». هذه الشمولية دليل قاطع على سعة الرحمة الإلهية التي لا تشمل المؤمنين فحسب، بل جميع المخلوقات. حتى أولئك الذين يعصون يتمتعون بالنعم والرزق الإلهي، وهذا بحد ذاته تجلٍّ لرحمته الواسعة. تتجلى رحمة الله في جوانب مختلفة من حياة البشر: في الخلق، في الهداية، في الرزق، في إمهال الفرص للتوبة والرجوع، وفي مغفرة الذنوب. حتى وجود الألم والمعاناة في هذه الدنيا، من منظور إلهي، يمكن أن يكون مظهرًا من مظاهر الرحمة؛ لأن هذه الصعوبات قد تكون أحيانًا لتطهير الإنسان، أو للإنذار، أو لنموه الروحي. من ناحية أخرى، فإن العدل الإلهي هو أيضًا جزء لا يتجزأ من صفات الله. فالله هو "العدل"، ولا يظلم عباده أبدًا: «وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ» (فصلت، الآية 46)؛ أي: «وما ربك بظلام للعبيد». يضمن عدل الله نظام الكون، ومكافأة الأعمال الصالحة، ومعاقبة الذنوب. بدون العدل، يصبح نظام الخلق بلا معنى، وتُهضم حقوق المظلومين. ومع ذلك، يكمن الفرق الرئيسي بين الرحمة والعدل في كيفية تطبيقهما وأولوية هاتين الصفتين. جاء في حديث قدسي: «إن رحمتي سبقت غضبي». هذا الحديث يشكل جوهر هذه المسألة. وهذا يعني أنه على الرغم من أن الله قادر على العقاب وتطبيق العدل المطلق، إلا أنه في كثير من الحالات يقدم رحمته. وتتجلى أسبقية الرحمة في حالات مثل: 1. فرصة التوبة: يدعو الله الإنسان مرارًا وتكرارًا في القرآن إلى التوبة والرجوع، ويعد بمغفرة الذنوب العظيمة، حتى لو كان المذنب: «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» (الزمر، الآية 53)؛ أي: «قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم». هذه الآية تبين بوضوح أن الرحمة الإلهية تتجاوز مجرد العدل وتوفر فرصة للمغفرة للمذنبين. 2. العفو والتجاوز: في كثير من الأحيان، يتجاوز الله عن عقاب الذنوب التي يرتكبها الإنسان، ويمنحه فرصة للتصحيح. وهذا لا يعني عدم وجود العدل، بل يعني غلبة الرحمة على العدل في التعامل مع الأخطاء البشرية. 3. المضاعفة في الثواب: في حين أن عقوبة الذنوب عادة ما تكون بقدر الذنب نفسه، فإن ثواب الأعمال الصالحة يتضاعف أحيانًا عدة مرات. وهذا أيضًا علامة على الرحمة والفضل الإلهي الذي يتغلب على مجرد العدل. 4. عدم التعجيل بالعذاب: لا يتعجل الله في تنفيذ عدله، ودائمًا ما يمنح عباده فرصة لتصحيح مسارهم. وهذا الإمهال بحد ذاته هو أكبر رحمة: «وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى» (فاطر، الآية 45)؛ أي: «ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى». 5. الابتلاءات والمصائب: حتى البلاءات والامتحانات يمكن أن تكون مظاهر للرحمة. فهي تدفع الإنسان نحو الله، وتطهر الذنوب، وتؤدي إلى النمو الروحي. في الختام، يجب القول إن العدل الإلهي يأتي في إطار رحمته. عدل الله لا يعني الظلم والانتقام، بل يعني وضع كل شيء في مكانه الصحيح وإقامة النظام والتوازن. وهذا النظام والتوازن بحد ذاته يشكل أساسًا لظهور الرحمة وسعادة الإنسان. في الواقع، رحمة الله مثل بحر لا نهاية له يتدفق فيه عدل الله. بدون الرحمة، سيكون العدل جافًا بلا روح؛ وبدون العدل، ستفقد الرحمة معناها الحقيقي وتؤدي إلى الفوضى. لذا، يمكن القول إن الرحمة والعدل الإلهيين يكملان بعضهما البعض، لكن الرحمة الإلهية دائمًا ما تكون الجانب الأكثر شمولًا وهي المهيمنة، وتفتح الطريق للعودة والأمل للجميع. هذا التعليم هو جوهر دين الإسلام الذي يمنح الأمل للإنسانية ويدعوها إلى الخير والعودة إلى الله، مع اليقين بأن الله دائمًا مستعد للمغفرة والرحمة. يلعب هذا الاعتقاد دورًا أساسيًا في تشكيل السلوك الفردي والجماعي للمسلمين، ويشجعهم على اللطف والتسامح والإنصاف في تعاملاتهم، مع العلم أن إلههم أرحم من أي رحيم.
يُروى أن نوشيروان العادل، ملكًا ذاع صيته بالعدل في جميع أنحاء العالم، كان ذات يوم في رحلة صيد. فرأى رجلاً يعاني من الضعف والمرض، لا يستطيع الوقوف على قدميه. فقال رفاق نوشيروان: «يا أيها الملك، يقتضي العدل أن يُترك هذا الرجل الضعيف لمصيره، فالطبيعة ستأخذ مجراها.» لكن نوشيروان أجاب بلطف: «إن مقام الملوكية لا يقوم على العدل بين القوي والضعيف فحسب، بل يقوم أيضًا على الرحمة والعطف تجاه جميع المخلوقات. إذا اقتصر العدل على العقاب والقصاص فقط، فإن العالم سيخلو من العطف. يجب أن تسبق رحمتي، حتى على المذنبين والضعفاء، لأن الله نفسه رحيم وغفور.» فأمر بمعالجة الرجل وتزويده بالمؤونة والمركب ليستعيد قوته. لم يُظهر هذا العمل الخير عدله فحسب، بل ذكّر العالم بلطفه ورحمته أيضًا، لأن القلوب تُروّض باللطف أكثر من السيف.