للمحن في القرآن حكم متعددة؛ فالكثير منها ابتلاء إلهي لتقوية الإيمان والصبر، ولكن بعضها أيضًا نتيجة لأفعال الإنسان، أو تكفير للذنوب، أو لرفع المقامات.
هذا السؤال العميق والمهم شغل أذهان البشر منذ الأزل. من منظور القرآن الكريم، تتطلب الإجابة على هذا السؤال فهمًا شاملاً ومتعدد الأوجه للحكمة الإلهية وهدف الخلق. لا يمكن القول بشكل قاطع إن "كل محنة" هي فقط ومجرد علامة على ابتلاء إلهي، بل إن المحن والمصاعب في القرآن الكريم لها أسباب وحكم متعددة، يُعد الابتلاء الإلهي أحد أبرزها وأهمها. **الابتلاء الإلهي (الامتحان):** ينص القرآن بوضوح على أن الله يبتلي عباده. هذه الاختبارات ليست لجهل الله بأحوال عباده، بل بهدف إظهار حقيقة الإيمان، وتمييز الصالح من الطالح، ورفع درجات المؤمنين، وتكفير الذنوب، وتربية الروح البشرية. في سورة البقرة، الآية 155، نقرأ: "وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ" (ولَنَختَبرَنّكم بشيء من الخوف والجوع، ونقص في الأموال والموت، ونقص في ثمراتكم ومحاصيلكم. وبشّر -أيها النبي- الصابرين). هذه الآية تشير بوضوح إلى أن المصاعب وسيلة لاختبار إيمان الإنسان وصبره. وفي سورة العنكبوت، الآيات 2 و 3، يقول الله أيضًا: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ" (أحسب الناس أن يُتركوا لمجرد قولهم: آمنّا، دون أن يُبتلَوا بما يُمتحن به إيمانهم؟ ولقد امتحنا الذين من قبلهم فظهر الصادق منهم والكاذب، فليعْلمن الله علم ظهور للناس الذين صَدَقوا في دعوى إيمانهم، وليَعْلمن الكاذبين فيها). تؤكد هذه الآيات أن الاختبار جزء لا يتجزأ من طريق الإيمان ووسيلة لتمييز الصادقين عن الكاذبين. لذلك، فإن العديد من المحن والمصائب هي بلاءات إلهية هدفها تقوية الإيمان، وتغذية الروح، واختبار صبر الإنسان وتوكله على الله. في هذه الفئة من المحن، يمكن للإنسان من خلال رد الفعل الصحيح (بالصبر، والشكر، وقول "إنا لله وإنا إليه راجعون"، والاستغفار، والتوكل) أن يتجاوزها لا بل أن يصل إلى مستويات أعلى من الكمال. غالبًا ما تكون هذه المحن لأولئك الذين يدعون الإيمان، ويريد الله أن يكشف عن عمق وثبات إيمانهم. حتى الأنبياء والأولياء، الذين كانوا في قمة الإيمان والعبودية، تحملوا أشد الصعاب والبلايا ليرتفع مقامهم وليكونوا قدوة للآخرين. **المحنة كنتيجة لأفعال الإنسان (جزاء/عقاب):** مع ذلك، ليست كل المحن مجرد ابتلاء إلهي. ينص القرآن صراحة على أن بعض المصائب والصعوبات هي نتيجة مباشرة لأفعال البشر أنفسهم. في سورة الروم، الآية 41، نقرأ: "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" (ظهر الفساد والاضطراب في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس من الذنوب والمعاصي، ليذيقهم الله عقوبة بعض أعمالهم في الدنيا، لعلهم يرجعون عن غيهم ويتوبون). تشير هذه الآية بوضوح إلى أن العديد من المشاكل والاختلالات، سواء كانت كوارث طبيعية (والتي قد تكون ناجمة عن تدخل الإنسان في الطبيعة) أو اجتماعية (مثل الحروب والفقر)، هي نتيجة للظلم والفساد والجحود وتجاوز الحدود الإلهية. هذه المحن هي شكل من أشكال العقاب الدنيوي أو على الأقل تذكير للاستيقاظ والعودة إلى طريق الحق. علاوة على ذلك، في سورة النساء، الآية 79، جاء: "مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ۚ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا" (ما أصابك -أيها الإنسان- من نعمة وخير فبفضل من الله ومنّه، وما أصابك من سوء وضرر فبذنب منك وتقديرٍ من الله سبحانه، وقد أرسلناك -أيها الرسول- للناس رسولاً تبلّغهم شرع ربهم، وكفى بالله شهيداً على صدق رسالتك). تؤكد هذه الآية أيضًا أن جزءًا من المحن ينجم عن أفعال الإنسان وخياراته. **المحنة ككفارة للذنوب (تكفير السيئات):** من الحكم الأخرى للمحن والصعوبات هي تكفير الذنوب. أحيانًا، يغفر الله ذنوب عبده من خلال المصائب الدنيوية، ليدخل الآخرة بحمل أخف. هذا شكل من أشكال الرحمة الإلهية التي تمنح العبد فرصة للتطهير، حتى لو لم يكن العبد مدركًا لذلك. وقد ورد هذا المفهوم بالتفصيل في الأحاديث النبوية، حيث يُذكر أن حتى الشوكة التي تصيب قدم المؤمن تكون كفارة لذنوبه. على الرغم من أن القرآن لم يذكر هذا المفهوم بشكل صريح ومباشر بهذه الألفاظ، إلا أن المبادئ العامة للرحمة والمغفرة الإلهية والصلة بين الذنب وعواقبه تدعم هذا التفسير. **المحنة لرفع الدرجات:** أحيانًا لا تكون المحن بسبب ذنب ولا لمجرد الاختبار، بل لرفع مقام المؤمن ومنزلته عند الله. هذه الحالة غالبًا ما تكون للأولياء والصالحين الذين، حتى في غياب الذنب، يواجههم الله بصعوبات ليُظهر قدراتهم الكامنة ويصعدوا درجات القرب الإلهي. يشبه الأمر الامتحانات الصعبة لطالب متميز، وهي ضرورية للدخول إلى مستويات أعلى من المعرفة والفهم. **المحنة كتحذير وتنبيه:** في بعض الأحيان، تعمل المحن والصعوبات كجرس إنذار للأشخاص الذين غرقوا في الغفلة. يمكن لهذه الصعوبات أن تعيدهم عن المسار الخاطئ وتوجههم نحو التوبة والعودة إلى الله. تنطبق هذه الحكمة بشكل خاص على الكوارث الجماعية مثل المجاعة أو الزلازل أو انتشار الأمراض، والتي يمكن أن تكون بمثابة تحذير للمجتمع. **الخلاصة:** لذلك، يجب أن تكون الإجابة على سؤال "هل كل محنة علامة على ابتلاء إلهي؟" دقيقة وحساسة. بينما يمكن تفسير جزء كبير من المعاناة البشرية في الحياة على أنها "ابتلاء إلهي" يهدف إلى تطهير الروح وتقوية الإيمان والنمو الروحي، لا يمكن إغفال الأبعاد الأخرى. فبعض المحن هي نتائج طبيعية لأفعال الإنسان وخياراته، وهي في الواقع شكل من أشكال الجزاء أو التذكير لتصحيح السلوك. وقد تكون بعض المحن الأخرى لكفارة الذنوب أو لرفع درجات المؤمنين الصادقين. يساعدنا فهم هذه الفروق في التعامل مع كل محنة نواجهها في الحياة بطريقة واعية وبناءة. فبدلاً من أن ننسب كل صعوبة على الفور إلى ابتلاء إلهي، يجب أن ننظر إلى دواخلنا، ونراجع أفعالنا، ونتوكل على الله، ونتحلى بالصبر، ونستخلص الدروس منها. في النهاية، كل محنة وصعوبة، مهما كان نوعها، هي فرصة للنمو والتأمل والعودة إلى الله، لأن الحكمة الإلهية تسري في كل منها. المهم هو كيف يواجه الإنسان هذه المحن ويستفيد منها للتقدم في طريق القرب الإلهي. هذا المنظور الشامل يمنح الإنسان السكينة ويمكّنه من البقاء ثابتًا في وجه عواصف الحياة.
قصة من روائع سعدي: يُحكى أن درويشًا كان يسير في طريق، وبسبب حر الصيف الشديد، سقط على الأرض من العطش والإرهاق. رآه رجل محسن فأحياه بالماء والبرودة. فلما استعاد الدرويش قواه قليلاً، قال: "يا أيها الرجل الكريم، من هذه المحنة العظيمة أدركت قيمة العافية الحقيقية، وتذكرت أن كل ما يأتي من المحبوب، وإن بدا محنة، فهو في جوهره نعمة لمعرفة الذات والشكر على أوقات الرخاء." ابتسم الرجل المحسن وقال: "نعم، أحيانًا تكون المحنة كالسوط الذي يوقظنا من الغفلة ويفتح أعيننا على الحكم الخفية." وتذكر الدرويش أن الله، حتى في أصعب اللحظات، قد أخفى دروسًا وحكمًا ليقود عباده نحو الكمال.