تبقى بعض الأحداث بلا إجابة لأنها جزء من الحكمة الإلهية وابتلاءات الحياة، وتنتمي إلى عالم الغيب الذي يفوق فهمنا المحدود. تدعونا هذه الأحداث إلى الصبر والتوكل والتسليم لإرادة الله.
يميل العقل البشري بطبيعته إلى السعي وراء الفهم، وإدراك الأسباب والنتائج، وإيجاد تسلسل منطقي للأحداث. عندما يواجه الإنسان مواقف يبقى فيها "لماذا" غامضًا، أو تحدث أحداث دون سبب واضح أو نتيجة محددة، فإن ذلك قد يؤدي إلى الارتباك والإحباط، وحتى أزمة في الإيمان. لماذا يعاني الأخيار؟ لماذا تبدو بعض المظالم وكأنها تمر دون عقاب؟ لماذا تبدو بعض الدعوات غير مستجابة؟ القرآن الكريم، وإن لم يقدم إجابة مبسطة أو واحدة تناسب كل لغز فردي، فإنه يقدم مبادئ عميقة تنير طبيعة الوجود والحكمة الإلهية وحدود الإدراك البشري، وبالتالي يوفر العزاء وإطارًا لفهم هذه الأحداث التي تبدو "غير مجاب عنها". هذه التعاليم لا تقدم فقط نظرة ثاقبة حول سبب حدوث الأحداث غير السارة، بل تمهد الطريق أيضًا للنمو الروحي والخضوع للإرادة الإلهية، معززة بذلك اتصالاً أعمق مع الخالق وتزرع شعوراً بالسلام وسط حالة عدم اليقين. أولاً، من المبادئ الأساسية التي تتكرر في جميع آيات القرآن هو مفهوم **الحكمة الإلهية (الحكمة)**. الله هو "الحكيم"، أي صاحب الحكمة المطلقة. كل فعل، كل قدر، وكل حادثة، سواء فهمناها أم لا، يقوم على حكمة بالغة وهدف نبيل. إن عقلنا البشري المحدود، المقيد بالزمان والمكان والفهم الجزئي للعواقب، لا يمكنه أن يدرك الشبكة المعقدة للتدبير الإلهي. ما يبدو لنا حدثًا عشوائيًا أو بلا معنى قد يكون قطعة حاسمة في تصميم كوني عظيم، يؤدي إلى نتائج تتجاوز بكثير رؤيتنا أو فهمنا الفوري. يذكرنا القرآن مرارًا وتكرارًا أن علم الله شامل ومطلق، يشمل الماضي والحاضر والمستقبل، وكذلك الغيب والشهادة، على عكس علمنا المجزأ والناقص. ويتجلى هذا بوضوح في سورة البقرة (الآية 216): "وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ". هذه الآية بمثابة تذكير قوي بأن أحكامنا غالبًا ما تكون مشوشة بسبب رغباتنا الفورية، وبُعد نظرنا المحدود، وردود أفعالنا العاطفية، بينما منظور الله مختلف تمامًا، متجذر في الخير المطلق والعلم الشامل. إن الطبيعة "غير المجاب عنها" لحدث ما من منظورنا تعني ببساطة أن "الإجابة" تقع خارج قدرتنا الحالية على إدراكها، وليس أنها غير موجودة. هذا الفهم يرسخ الطمأنينة في قلوب المؤمنين، بأن كل ما يصيبهم من خير أو شر، فإن خلفه حكمة بالغة لا يمكن للعقل البشري إدراكها بالكامل في الحال. إن الإدراك البشري محدود، وقاصِر عن استيعاب الأبعاد الكاملة للأقدار الإلهية، ولذلك فإن التسليم بقدر الله هو مفتاح الراحة النفسية والإيمان الراسخ، ويحثنا على التفكير بعمق في الأقدار الإلهية وعدم التعجل في إصدار الأحكام. ثانياً، العديد من هذه الأحداث التي تبدو غير قابلة للتفسير هي في الواقع **اختبارات وابتلاءات (فتنة)** من الله. الحياة في هذا العالم، وفقًا للقرآن، هي في جوهرها اختبار. إنه منزل مؤقت مصمم لفرز المخلصين من غير المخلصين، الصابرين من غير الصابرين، الشاكرين من الجاحدين. يختبر الله عباده باليسر والعسر، بالوفرة والندرة، بالصحة والمرض، بالنجاح والفشل، وبالخسائر الظاهرة أو الأسئلة التي لا تجد لها إجابة. هذه الاختبارات ليست لغرض إيذائنا، بل لتطهيرنا، ورفع درجاتنا، وتقوية إيماننا، وتعليمنا الصبر، وحثنا على التوجه إليه بتواضع وتوكل. كما جاء في سورة البقرة (الآية 155): "وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ". عندما تتكشف الأحداث بطرق لا نفهمها، قد تكون هذه فرصة لنا لإظهار إيمان لا يتزعزع، وثبات، وثقة في قدره، حتى عندما يكون المسار غير واضح. عندئذ، يصبح الطابع "غير المجاب عنه" لمثل هذه الأحداث جزءًا حاسمًا من الاختبار نفسه، يتطلب مستوى أعمق من التسليم والنضج الروحي. هذه الاختبارات تهدف إلى كشف الجوهر الحقيقي لإيمان الشخص وشخصيته، لتمييز أولئك الذين يعتمدون حقًا على الله عن أولئك الذين يلجأون إليه فقط في أوقات الراحة. إنها لحظات مصيرية تُصقل الروح، وتحرق الشوائب، وتقوي العزيمة الروحية، لتصبح النفس أكثر نقاءً وقرباً من خالقها. إنها دعوة للتأمل في الذات واللجوء إلى الله بالدعاء والاستغفار، وتعزيز اليقين بأن مع العسر يسراً. ثالثاً، يعلمنا القرآن عن **الغيب (الغيب)**. هناك أبعاد للحقيقة، وعمليات إلهية، ونتائج مستقبلية تتجاوز تمامًا الفهم البشري. الله وحده يمتلك علم الغيب. لقد أعطينا لمحة فقط، جزءًا صغيرًا، من المعرفة. طلب تفسير لكل حدث في الكون يشبه طفلًا يطلب فهم فيزياء الكم المعقدة؛ الأدوات والقدرة والمعرفة الأساسية اللازمة ليست موجودة ببساطة. تسلط سورة الأنعام (الآية 59) الضوء على هذا: "وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ". هذه الآية تؤكد على اتساع علم الله والنطاق المحدود لإدراك الإنسان. تظل الكثير من الأمور "غير مجاب عنها" لأنها تنتمي إلى عالم الغيب، وهو مجال مخصص للخالق وحده. يتطلب إيماننا قبول هذه الحقيقة - أننا لا نحتاج إلى فهم كل شيء لنؤمن بالحكمة الكامنة وراءه. وقصة موسى والخضر في سورة الكهف (الآيات 60-82) هي رواية عميقة توضح هذه النقطة بالتحديد. يقوم الخضر بأفعال تبدو غير عادلة أو غير منطقية لموسى، الذي، على الرغم من كونه نبيًا، يفتقر إلى المعرفة الكاملة بالخطة الإلهية وراء تلك الأفعال. يلخص رد الخضر على موسى هذه الحقيقة: "وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا" (الكهف: 68). هذه الرواية توضح تمامًا أن ما يبدو "غير مجاب عنه" أو حتى خاطئًا من منظورنا البشري المحدود غالبًا ما يكون له سبب خفي وعميق وخير لا يعلمه إلا الله، مما يدعونا للتسليم لحكمة الخالق والتواضع أمام علمه اللامتناهي. رابعاً، إن الغاية من وجود الإنسان ترتبط بهذا الفهم. لقد خلقنا لعبادة الله والسعي للآخرة. حياتنا ليست مجرد سلسلة من الأحداث التي تتطلب إجابات فورية، بل هي رحلة نمو روحي، ومساءلة، وإعداد للأبدية. التركيز المفرط على سبب حدوث بعض الأحداث بطريقة لا نفهمها يمكن أن يصرفنا عن هدفنا الأساسي. بدلاً من ذلك، يشجعنا القرآن على التفاعل مع جميع الظروف بالصبر والشكر والثبات، واثقين بأن خطة الله عادلة دائمًا ومفيدة في النهاية للمؤمنين. تعمل الأحداث "غير المجاب عنها" كتذكير دائم بتواضعنا أمام الخالق واعتمادنا المطلق عليه. إنها تدفعنا نحو التأمل والصلاة والاعتماد الأعمق على من يملك جميع الإجابات. إن هذا الفهم العميق يحرر النفس من قلق التساؤلات اللامتناهية ويقودها إلى سلم الاستسلام والرضا بقضاء الله وقدره، مما يفتح آفاقاً جديدة للنمو الروحي والتقرب من الخالق العظيم، ويجعلنا ندرك أن كل ما يحدث في حياتنا، له حكمته الخاصة، حتى وإن خفيت عنا الأسباب والنتائج. ختاماً، عندما تبدو بعض الأحداث "غير مجاب عنها"، فإن ذلك ليس مؤشراً على نقص في الهدف أو الحكمة، بل هو انعكاس لفهمنا البشري المحدود في مواجهة العلم الإلهي اللامتناهي. يرشدنا القرآن إلى تقبل هذه اللحظات بإيمان وصبر وثقة عميقة في حكمة الله الشاملة وخطته النبيلة. إنه يعلمنا أن العديد من هذه الأحداث هي اختبارات إلهية تهدف إلى صقل شخصيتنا وتقوية ارتباطنا بخالقنا، بينما البعض الآخر ينتمي ببساطة إلى عالم الغيب، وهو مجال مقدس مخصص لله وحده. من خلال تبني هذا المنظور القرآني، تتحول طبيعة الأحداث "غير المجاب عنها" المقلقة إلى فرصة للنمو الروحي، والتواضع، والتسليم العميق للإرادة الإلهية، مع العلم أن كل حدث، في المخطط الكبير للأمور، له سببه النهائي ويخدم غرضًا أعلى، حتى لو ظل محجوبًا عن بصرنا الفوري وإدراكنا له قاصرًا. هذا القبول يمنح الطمأنينة للقلوب ويفتح آفاقاً لفهم أعمق للحياة والوجود، مؤكداً أن حكمة الله تعالى لا حدود لها، وأن كل أمر يصيبنا هو لحكمة بالغة قد لا ندركها في حينه، ولكنها بالتأكيد تحمل الخير في طياتها.
في قديم الزمان، حكم ملك عادل مملكة. وفي أحد السنوات، حلت مجاعة شديدة بالمملكة بسبب جفاف قاسٍ، مما دفع بالناس إلى اليأس والبؤس. وعلى الرغم من صلواتهم الحارة من أجل المطر، بقيت السماء مقفرة. اقترب السكان المضطربون من الملك، شاكين من سبب بقاء دعواتهم بلا إجابة واستمرار معاناتهم. الملك الحكيم، بدا صامتاً من الخارج، يحدق في السماء بصمت طويل ومتأمل. ازداد الناس حيرة ويأساً من صمته، وهمس البعض بأن الملك نفسه لا يملك إجابات لمحنتهم. ولكن الملك الحكيم، في خلوته، استدعى وزيره الموثوق وقال: "هذا الجفاف، وإن كان قاسياً، إلا أنه يحمل حكمة خفية قد تكون محجوبة عن الناس. بدلاً من الشكوى مما لم يأتِ، يجب أن نبحث عن الطريق الذي فتحه الله لنا في هذه الكارثة." أجاب الوزير: "يا أيها الملك، أي طريق؟ الأرض قاحلة، والعيون جفت." أمر الملك: "اذهب وابحث عن الماء في أعمق أجزاء الصحراء؛ فربما في الشدائد تكمن السهولة وكنز خفي." وبناءً على أمر الملك، وعلى الرغم من يأس الناس، انطلق الوزير ورجاله إلى الصحاري القاحلة، يحفرون الآبار. وبعد أسابيع من الجهد الشاق واليأس الذي سيطر على القلوب، اكتشفوا فجأة ينبوعاً هائلاً وعذباً في عمق الصحراء، لم يكن معروفاً من قبل. هذا الماء لم ينهِ الجفاف فحسب، بل وفر مياه شرب وزراعة وفيرة للمملكة لسنوات عديدة قادمة. أدرك الناس، الذين كانوا قد اشتكوا سابقاً من عدم استجابة دعواتهم، الآن أن الجفاف الشديد نفسه كان يحمل حكمة عظيمة؛ فقد أجبرهم على البحث واكتشاف مصدر مياه لم يكونوا ليفكروا فيه أبداً في أوقات الوفرة. خاطب الملك شعبه قائلاً: "تذكروا دائماً، ما يبدو صعباً وغير مجاب عنه ظاهراً، قد يكون في جوهره مفتاح الخير العظيم والانفراج الذي قدره الله لكم بحكمته. فاصبروا وثقوا في التدبير الإلهي." هذه القصة، المستوحاة من روح حكايات سعدي، توضح أن العديد من الأحداث التي تبدو "غير مجاب عنها" هي في الواقع جزء من خطة إلهية أكبر، حيث يوجهنا الله، بحكمته اللانهائية، نحو انفراجات وبركات تظل مخفية عن أنظارنا. أحياناً، ما نعتبره طريقاً مسدوداً هو في الواقع مسار جديد وغير مستكشف يؤدي إلى نعم أكبر.