نعم، كل البشر مسؤولون أمام الله تعالى عن أفعالهم واختياراتهم، لأن الله منح الإنسان الإرادة الحرة والعقل، وقدم الإرشاد اللازم عبر الأنبياء والكتب السماوية. سيُحاسَب كل فرد وحده على أعماله يوم القيامة، والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها.
نعم، بالتأكيد وبلا أدنى شك، إن أحد المفاهيم الأساسية والجوهرية في الرؤية الكونية القرآنية والإسلامية هو مسؤولية كل إنسان ومحاسبته أمام الله تعالى. هذه المسؤولية ليست مجرد واجب ديني، بل هي جوهر كرامة الإنسان ومكانته الفريدة في نظام الخلق. يذكرنا القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا وبطرق متنوعة بهذه الحقيقة: أن كل فرد سيُحاسب أمام الحضرة الإلهية على أفعاله، نواياه، خياراته، وحتى أفكاره. يشكل هذا المبدأ حجر الزاوية للعدالة الإلهية والسبب وراء إرسال الأنبياء والكتب السماوية. منذ بداية خلق الإنسان، أوكل الله تعالى إليه مسؤولية عظيمة، يُعبر عنها في القرآن بـ «الأمانة» الإلهية. في سورة الأحزاب، الآية 72، نقرأ: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا» (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، إنه كان ظلومًا جهولًا). هذه الأمانة العظيمة هي عبء مسؤولية التكليف، والإرادة الحرة، والعقل، والقدرة على الاختيار بين الخير والشر. بقبولها، تحوّل الإنسان إلى كائن صاحب إرادة واختيار. هذا التمييز الأساسي يفصل الإنسان عن سائر المخلوقات التي تفتقر إلى هذا الاختيار، ويجعله مستحقًا للثواب والعقاب. تُعد المساءلة الفردية سمة بارزة لهذه المسؤولية. يوضح القرآن الكريم بجلاء أن لا أحد سيتحمل وزر ذنب آخر، وكل إنسان مسؤول عن أفعاله الخاصة. في سورة الأنعام، الآية 164، يقول: «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ» (ولا تحمل نفسٌ إثمَ نفسٍ أخرى). هذه الآية تأكيد قاطع على العدالة الإلهية التي تتعامل مع حساب كل فرد على حدة. وهذا يعني أن العلاقات العائلية أو الودية أو الاجتماعية لا يمكن أن تمنع الفرد من المساءلة المباشرة عن أفعاله. فكل عمل، قول، نية، وحتى صمتنا عندما كان ينبغي أن نتكلم، يتم تسجيله وحفظه، وفي يوم القيامة، سنرى نتيجته. تعبر سورة الزلزلة، الآيتان 7 و 8، عن هذه الحقيقة بشكل ملموس للغاية: «فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» (فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره). لذلك، هذه المسؤولية شاملة وتغطي جميع جوانب حياة الإنسان؛ من العلاقات الفردية والأسرية إلى الأدوار الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فالمسؤولية تجاه حقوق الوالدين، الزوج، الأولاد، الجيران، الفقراء والمحتاجين، البيئة، وحتى الحيوانات والنباتات، كلها أمثلة على هذه المساءلة. وكل نعمة منحها الله للإنسان، سواء كانت صحة، ثروة، علم، قوة، وحتى الوقت والعمر، تأتي مع مسؤولية يجب أن يُحاسَب عليها كيف استخدمها. هل استُخدمت في سبيل الخير أم في سبيل الشر؟ هل شُكرت النعمة أم كُفرت؟ نقطة أخرى بالغة الأهمية هي أن الله تعالى لم يُحمل أحدًا مسؤولية دون علم أو هداية. فإرسال الأنبياء، وإنزال الكتب السماوية، والإلهام الإلهي للفطرة البشرية، كلها تهدف إلى إقامة الحجة وتوضيح طريق الحق من الباطل. يخبرنا القرآن أن الله لا يعذب قومًا أبدًا إلا بعد أن يرسل إليهم رسولًا ونذيرًا (سورة الإسراء، الآية 15: «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا»). هذا المبدأ يبرهن على عدالة الله المطلقة. لذا، تكتسب المسؤولية معناها حيث يكون الإنسان قد بلغ النضج العقلي ووصلته الرسالة الإلهية. أما الأفراد الذين يعانون من قصور عقلي أو الذين لم تصل إليهم رسالة الدين بشكل صحيح طوال حياتهم (ويُشار إليهم في اللاهوت الإسلامي بـ «أهل الفترة»)، فسيتلقون معاملة خاصة من العدل والرحمة الإلهية يوم القيامة، وسيكون حكمهم مختلفًا، لأن الحجة لم تقم عليهم. لكن هذه الاستثناءات لا تلغي المبدأ العام لمسؤولية البشر الأحرار الواعين. علاوة على ذلك، يؤكد الله في القرآن أنه لا يكلف نفسًا إلا وسعها. في سورة البقرة، الآية 286، نقرأ: «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا» (لا يكلف الله نفسًا إلا طاقتها). هذه الآية تبعث على الطمأنينة وتشير إلى أن التكاليف الإلهية تتناسب دائمًا مع قدراتنا الفردية. فلا داعي للقلق بشأن عدم القدرة على الوفاء بالمسؤوليات، لأن الله لم يطلب منا ما هو فوق طاقتنا. تضمن هذه الرحمة والعدالة أن الحساب يوم القيامة سيكون مبنيًا على هذا المبدأ من العدل والرحمة الإلهية. في الختام، إن هذا الإحساس بالمسؤولية أمام الله ليس لغرس الخوف والهلع، بل لإيقاظ الضمير، وتهذيب النفس، ودفع الإنسان نحو الكمال والسعادة. الوعي بأن كل عمل يسجل وكل لحظة لها حساب، يجعل الإنسان أكثر دقة في خياراته ويمنحه دافعًا لبناء حياته بهدف وفقًا للتعاليم الإلهية. هذه المسؤولية هي العمود الفقري لحياتنا الروحية والاجتماعية، وتمنح وجودنا معنى واتجاهًا. لذا، نعم، كل البشر مسؤولون أمام الله، وهذه المسؤولية هي نعمة تمهد الطريق للنمو والارتقاء والتقرب من الله.
يُروى أن ملكًا عادلاً جمع وزراءه وسأل: «ما هي السياسة الصحيحة في حكم المملكة؟» فقال أحدهم: «الشدة والانضباط». وقال آخر: «اللين والرفق». لكن شيخًا حكيمًا، كان قد تعلم الحكمة لسنوات من گلستان وبوستان سعدي، تكلّم وقال: «يا أيها الملك! أفضل سياسة هي أن تُحاسب كل شخص بقدر تكليفه. فكما أن البستاني يسقي كل غرسة بقدر حاجتها ويقتلع الحشائش من جذورها، كذلك ينبغي لكل فرد، منكم أيها الملك المسؤول عن رعيتكم إلى الفلاح المسؤول عن زراعته، أن يعلم أن حساب أعماله منفصل. فكما يقول سعدي: «الملك الذي لا يرعى رعيته، يأكل من خوفه على حياته». والرعية أيضًا إذا كانت مهملة، فسوف تنهار المملكة. فمن يزرع بذرة خير، يحصد ثمارًا طيبة، ومن يزرع بذور الفساد، فلن يرى إلا الخراب. وهكذا، فإن كل فرد في مكانه، مسؤول عن أفعاله، وهذه المسؤولية هي أساس العدل والازدهار.» ففرح الملك بهذا القول الحكيم، وعلم أن النجاة تكمن في وعي كل فرد بحمل الأمانة الموكلة إليه.