يترك الله بعض الطرق مبهمة لاختبار البشر، وتعزيز حريتهم في الاختيار، وتشجيعهم على التفكر والجهد العقلي. هذه الغموضات الظاهرية جزء من الحكمة الإلهية لنمو الإنسان ورفعته.
الإجابة على سؤال لماذا يترك الله بعض الطرق مبهمة تتطلب فهمًا عميقًا للحكمة الإلهية، وطبيعة الوجود البشري في هذا العالم، وأهداف الخلق. من منظور القرآن الكريم، لا يوجد شيء في الوجود بلا هدف أو حكمة. وما قد يبدو مبهمًا أو غير واضح للإنسان هو جزء لا يتجزأ من الخطة الإلهية الشاملة لنمو البشر واختبارهم ورفع درجاتهم. هذا الغموض الظاهري ليس علامة على نقص في الإرشاد، بل هو تجلٍ للحكمة الإلهية اللامتناهية التي تتجلى بطرق مختلفة في حياة الإنسان. السبب الأول والأكثر أهمية لوجود ما نعتبره "غموضًا" يرتبط بمفهوم "الابتلاء" و"الامتحان" الإلهي. يوضح الله تعالى في القرآن صراحة أن الحياة الدنيا هي ساحة للاختبار والاختيار. في سورة العنكبوت، الآيتين 2-3، يقول: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ". تُظهر هذه الآيات بوضوح أن جزءًا من هدف خلق الإنسان هو تمييز الطيب من الخبيث، والصادق من الكاذب، والشاكر من الكافر. إذا كانت جميع الطرق واضحة تمامًا وخالية من أي تحديات أو شكوك، فإن مجال الاختيار الحر والتمييز بين الأفراد سيزول. الغموض في بعض المسارات يوفر فرصة للإنسان ليجد الطريق الصحيح باستخدام عقله وفطرته وتوجيهات الوحي والتوكل على الله. عملية البحث والسعي هذه بحد ذاتها تعزز النمو الفكري والروحي للإنسان وتزيد من قيمة أعماله. كل خيار صعب وكل قرار يتم اتخاذه وسط الغموض، هو محك لإخلاص الإنسان وثباته؛ هل يلجأ إلى النور الإلهي في الظلام أم يستسلم لليأس؟ تكشف هذه الاختبارات عن الإمكانات البشرية الخفية وتهيئ الأفراد لمقامات أعلى. سبب آخر يرتبط بمفهوم "الاختيار" و"حرية الإرادة" البشرية. لقد خلق الله الإنسان مختارًا لكي يسلك طريقه نحو الكمال أو طريق السقوط باختياره. لو كان كل جزء من الحياة وكل قرار محددًا بشكل مطلق ولا لبس فيه للإنسان، لأصبح مفهوم الاختيار بلا معنى. إن وجود الغموض، سواء في المسائل الشخصية أو الاجتماعية أو حتى في بعض جوانب فهم الدين، يدفع الإنسان إلى التفكر والتدبر، وطلب المساعدة من العلماء الربانيين، والتشاور مع الحكماء، وفي النهاية اتخاذ القرارات بالتوكل على الله. هذه العملية تحرر الإنسان من التقليد الأعمى وتدفعه نحو التعقل والبصيرة. لا يريد الله من الإنسان أن يتصرف كإنسان آلي؛ بل يريد منه أن يقترب إليه باختياراته الواعية. تعتمد حرية الاختيار على وجود خيارات، قد لا يظهر بعضها بوضوح الطريق الصحيح بسبب تعقيداته الظاهرية، وهذا هو الفضاء الذي تتجلى فيه جوهر حرية الإرادة البشرية وتظهر القيمة الحقيقية للإيمان والعمل الصالح. بالإضافة إلى ذلك، فإن جزءًا مما نسميه "غموضًا" يتعلق في الواقع بـ "المتشابهات" في القرآن الكريم. في سورة آل عمران، الآية 7، نقرأ: "هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ". تُظهر هذه الآية أن هناك آيات في القرآن لا يكون معناها واضحًا على الفور للجميع وتتطلب تعمقًا وتدبرًا، أو حتى معرفة بالغيب، وهو ما يعلمه الله وحده والراسخون في العلم. يمكن أن يخدم وجود المتشابهات عدة أهداف: أ) تحفيز الفكر والتدبر في الآيات؛ ب) اختبار للإيمان والتسليم لكلام الله، حتى لو لم تُفهم جميع تفاصيله من قبل البشر؛ ج) توفير أساس للاجتهاد واستنباط الأحكام والمعارف من قبل العلماء؛ د) الحفاظ على عمق المعنى وديناميته في القرآن بمرور الوقت. ما هو غامض للبعض، يمكن أن يكون بوابة لمعارف أعمق للراسخين في العلم، ويمنحهم الفرصة للكشف عن الأسرار باستخدام نور العقل والوحي. هذا يساهم في ديناميكية الفقه والبحث الإسلامي ويثري الحياة الثقافية والفكرية للأمة. يجب الأخذ في الاعتبار أيضًا أن المسار الأساسي والهادي للإرشاد الإلهي، أي طريق الحق والباطل، واضح تمامًا. في سورة البقرة، الآية 256، جاء: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي". تؤكد هذه الآية أن المبادئ الأساسية للإيمان والكفر، والحق والباطل، وطريق السعادة والشقاء، قد تم بيانها بوضوح. إن الغموض الذي قد ينشأ في بعض التفاصيل أو خيارات الحياة ليس في الواقع خارج هذه المبادئ الأساسية؛ بل يتعلق بكيفية تطبيق هذه المبادئ في مواقف معينة أو كيفية اختيار أفضل خيار من بين الخيارات التي تقع جميعها ضمن إطار الحلال. لقد أضاء الله الطريق الرئيسي ويدعو الإنسان إلى التفكر والبحث عن التفاصيل. هذه الدقائق والتعقيدات في الممارسة تخدم التمييز بين مستويات الفهم والإيمان المختلفة. ومن كان صادقًا ومجتهدًا في طلب الحقيقة، فإنه بتوفيق الله وجهده، سيصل إلى الوضوح من وراء الغموض الظاهري. علاوة على ذلك، فإن الغرض من وجود هذه "الغموض" (التي من الأفضل أن نسميها "اللمحات الخفية" أو "مسار النمو") يمكن أن يكون تنمية صفات مثل الصبر، والتوكل على الله، والاجتهاد، والشكر عند اكتشاف الحقيقة، والتواضع أمام المعرفة الإلهية. لو كان كل شيء واضحًا تمامًا، لقلت الحاجة إلى هذه الصفات. ففي مواجهة المجهول، يتضرع الإنسان إلى الله، ويثق بحكمته، ويسعى لاكتشاف الحقيقة. هذه العملية تقربه من الله وتعلمه أن يسعى دائمًا للمعرفة والحقيقة. كل ذرة شك تُزال باليقين، هي خطوة في طريق القرب الإلهي. هذا السعي للفهم والبحث يضاعف قيمة المعرفة والبصيرة ويحول الإنسان من كائن مطيع إلى كائن مفكر ومحب للحقيقة. في الختام، الله هو العليم المطلق، والإنسان محدود بالزمان والمكان. الفهم الكامل للحكمة الإلهية في جميع تفاصيلها ليس ممكنًا للإنسان. قد تبدو بعض الطرق غامضة بسبب محدودية إدراكنا، أو لأن الوقت المناسب لكشفها لم يحن بعد. هذا يقود الإنسان إلى التواضع أمام العظمة الإلهية والاعتراف بحدود علمه. لذا، فإن ما نسميه غموضًا هو في الواقع جزء من خطة الله لخلق أفراد واعين، ومختارين، وصبورين، ومتوكلين، وباحثين عن الحقيقة، يتقدمون في طريق الكمال والقرب من الله. هذه اللمحات الخفية ليست عوائق، بل هي سلالم للصعود إلى درجات روحية أعلى، وتضمن بقاء الإنسان دائمًا في حالة طلب وبحث، وتجنب الركود والغرور. وهكذا، بحكمته، لا يحدد الله المسارات فحسب، بل يضيف، من خلال الغموض الظاهري، ثراء وعمقًا للحياة الروحية البشرية.
في الأزمنة الغابرة، انطلق شاب شغوف اسمه "سليم" في رحلة طويلة بحثًا عن العلم والحكمة. وصل إلى غابة كثيفة ومتعرجة، حيث كان كل منعطف يقدم عشرات المسارات غير الواضحة. أصبح سليم حائرًا؛ فكل طريق ينظر إليه لم يكن له نهاية واضحة، ولم يكن يعلم أي منها سيوصله إلى مقصده. استولى عليه اليأس، لكنه فجأة تذكر قولًا لشيخ حكيم: "أحيانًا لا يكون الطريق واضحًا، لكن النور الداخلي لا ينطفئ أبدًا." بدلًا من الاستسلام لليأس، قرر سليم أن يلجأ إلى داخله، ليستمع إلى العلامات الدقيقة للطبيعة ونداء إيمانه. أغلق عينيه، ودعا ربه، ثم بقلب أكثر اطمئنانًا، اختار طريقًا شعر أنه يتوافق معه. خطوة بخطوة، مضى بتوكل وصبر. وفي منتصف الطريق، اكتشف علامة خفية لم يلاحظها من قبل، وقادته تلك العلامة إلى نبع ماء زلال ثم إلى الطريق الرئيسي. فكر سليم في نفسه: "حكمة الله تكمن في عدم جعل كل شيء سهلًا، حتى يكتشف الإنسان، من خلال الجهد والتوكل، الكنز المخفي للإيمان والبصيرة في داخله." وفي تلك الرحلة، لم يجد الطريق فحسب، بل وجد نفسه أيضًا.