الثقة بالله في القرارات تتضمن التشاور، وبذل الجهد الكامل، والاستخارة، ثم التسليم للإرادة الإلهية. هذا النهج يجلب الطمأنينة القلبية ويؤكد لنا حكمة الله في كل الأمور.
في رحلة الحياة المتشابكة، يواجه كل إنسان عددًا لا يحصى من القرارات، من الخيارات اليومية البسيطة إلى اللحظات المحورية التي تغير مجرى الحياة. وفي خضم هذه القرارات، يُعد وجود سند قوي وعماد موثوق به مصدرًا للسلام الداخلي والطمأنينة. في الثقافة الإسلامية، هذا السند القوي ليس سوى التوكل على الله تعالى. إن الثقة بالله في اتخاذ القرارات لا تعني مجرد التخلي عن الجهد والسعي، بل هي عملية نشطة وديناميكية تشمل عدة مراحل أساسية وتتطلب فهمًا عميقًا لعلاقة الإنسان بخالقه. هذا التوكل لا يمنح الإنسان القوة لمواجهة التحديات فحسب، بل يغرس سكينة عميقة في قلبه، لأنه يعلم أن التدبير النهائي يرجع إلى قوة لا متناهية وعلم مطلق. الخطوة الأولى في التوكل الحقيقي هي **التشاور والاستفادة من الحكمة الجماعية (الشورى)**. يؤكد القرآن الكريم بوضوح على أهمية التشاور. في سورة آل عمران، الآية 159، يأمر الله النبي محمد (صلى الله عليه وسلم): «...وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ». هذه الآية تشير إلى أن التوكل يأتي بعد التشاور والنظر في جوانب الأمر. يجب على الإنسان أن يبذل قصارى جهده لجمع المعلومات، والتشاور مع أهل الخبرة، والتفكير العقلاني. هذا يعني أن العقل والمعرفة أدوات منحها الله لنا للوصول إلى أفضل قرار. فتجاهل العقل وانتظار المعجزة فحسب يتنافى مع المفهوم الصحيح للتوكل. يساعدنا التشاور على فهم أبعاد مختلفة للمشكلة، والاستفادة من تجارب الآخرين، وتجنب الأخطاء المحتملة. الخطوة الثانية هي **بذل أقصى جهد وسعي (بذل الجهد)**. التوكل لا يعني الكسل وعدم اتخاذ الإجراءات. بل يعني أنه بعد البحث والتشاور، يجب على المرء أن يسعى بكل قوته ومن خلال الأسباب المادية والظاهرية، لتحقيق هدفه. المثل المعروف «منك الحركة، ومن الله البركة» يعبر عن هذا المفهوم بالضبط. إن الله لا يعين إلا من يعين نفسه. في القرآن الكريم، جاء: «...إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ...» (سورة الرعد، الآية 11). هذه الآية تؤكد أن عنصر الفاعلية والمسؤولية في تغيير الظروف يقع على عاتق الإنسان نفسه، ولا يكتسب التوكل معناه إلا بعد أداء هذه المسؤولية. الخطوة الثالثة تتضمن **صلاة الاستخارة وطلب الهداية من الله**. بعد الانتهاء من جميع المراحل العقلية والجهود العملية، قد يظل الإنسان مترددًا بين عدة خيارات. في هذه النقطة، تدخل الاستخارة كأداة روحية لطلب الخير والهداية من الله. الاستخارة هي شكل من أشكال الاتصال القلبي بالله، مصحوبة بالدعاء والصلاة، وتهدف إلى طلب التيسير وإزالة التردد من خلال إلهام قلبي أو علامة روحية. هذا العمل يمثل أقصى درجات التسليم للإرادة الإلهية واعترافًا بحدود المعرفة البشرية. وهذا لا يعني أن الله يتخذ القرار بدلاً منك، بل يعني أنه يوجه قلبك نحو ما هو خير ويمنحك طمأنينة داخلية. الخطوة الرابعة، وربما الأهم، هي **الرضا والتسليم للقضاء والقدر الإلهي**. بعد الانتهاء من جميع المراحل المذكورة أعلاه – التشاور، والجهد، وطلب الهداية – يجب على الإنسان أن يسلم الأمر لله وأن يكون راضيًا ومستسلمًا لأي نتيجة تحدث. هذه المرحلة تمثل ذروة الثقة في حكمة الله وعلمه اللامتناهي. فربما تكون النتيجة التي لا نحبها ظاهريًا، تحمل في باطنها خيرًا عظيمًا يفوق إدراك البشر. يقول القرآن الكريم: «...وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» (سورة البقرة، الآية 216)؛ أي: «وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون». هذه الآية هي مصباح الطريق لقبول النتائج، وإن بدت غير مرغوبة، وتعلمنا أن نثق دائمًا في علم الله وحكمته. فوائد الثقة بالله في اتخاذ القرارات لا تحصى. هذا التوكل لا يرفع عن الإنسان عبء اتخاذ القرار ويجلب له السلام الروحي فحسب، بل يقلل بشكل كبير من القلق والتوتر. فمن يتوكل على الله يعلم أن النتيجة، مهما كانت، هي أفضل ما قدره الله له. هذا الاعتقاد يعزز الصبر والشكر في الإنسان؛ الصبر على الصعوبات والشكر على كل نعمة تأتيه. بالإضافة إلى ذلك، فإن التوكل على الله يجعل الإنسان لا ييأس في مواجهة الفشل ولا يتكبر عند النجاح، لأنه ينسب مصدر كل الخير إلى ربه. في الحقيقة، التوكل هو ذروة الإيمان العملي والاتصال العميق للإنسان بخالقه، والذي تظهر ثماره في جميع جوانب الحياة، بما في ذلك السلام الداخلي والنجاحات الخارجية. وهكذا، يصبح اتخاذ القرار ليس عبئًا، بل فرصة لتعزيز الإيمان وتجربة الوجود الإلهي في الحياة.
يُروى أنه في الأزمنة الغابرة، كان هناك تاجر يُدعى فريدون، وصل إلى مفترق طرق كبير في تجارته. كان مترددًا بين طريقين ولم يعرف أيهما خير له. ذهب فريدون إلى شيخ حكيم وشرح له حاله. استمع الشيخ وبابتسامة قال: «يا شاب، الحكمة تكمن في التشاور، ونتيجة الأمر في التوكل. أولاً، تشاور مع من يرجون لك الخير، ثم ابذل كل جهدك في الطريق الذي اخترته، وبعد ذلك، فوض الأمر إلى الله الحكيم، فهو أعلم بالنتائج الخفية منا.» أخذ فريدون نصيحة الشيخ بجدية، وتشاور مع ذوي الخبرة، واجتهد بكل قلبه، ثم بسلام داخلي، سلم الأمر لله. وهكذا، لم يحقق هدفه فحسب، بل وجد طمأنينة أثمن من أي ربح، لأنه علم أن يد العون الإلهية فوق كل يد دائمًا.