لمكافحة اللامبالاة بالنعم، يجب أن ندرك أن مصدرها الله، ونتفكر في خلقه، ونمارس الشكر قولاً وعملاً، ونستخدم النعم بحكمة. الذكر الدائم لله ومقارنة النفس بمن هم أقل حظاً يسهمان أيضاً في تنمية الشعور بالامتنان.
اللامبالاة بالنعم هي واحدة من أعظم التحديات الروحية والنفسية التي يواجهها الإنسان عبر الزمن. فكثير منا، بسبب الاعتياد على ما نملك، يغفل عن قيمتها الحقيقية، وغالباً ما لا ندرك أهميتها إلا بعد فقدانها. يقدم القرآن الكريم حلولاً واضحة وعميقة لمكافحة هذا اللامبالاة وتنمية الشعور العميق بالامتنان والشكر. هذه الحلول لا تساعد الفرد على عيش حياة أكثر سعادة ورضا فحسب، بل تعينه أيضاً في رحلته نحو العبودية والتقرب إلى الله. الخطوة الأولى والأكثر أهمية هي **معرفة مصدر النعم والإقرار به**. يذكر القرآن مراراً وتكراراً أن كل نعمة تصلنا، مادية كانت أم معنوية، هي مباشرة من الله. في سورة النحل، الآية 78، يقول الله تعالى: «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»؛ أي: «والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون». هذه الآية تبين بوضوح أن حتى النعم الأساسية كحواس السمع والبصر والإدراك، هي من عنده، والهدف من منحها هو الشكر. قبول هذه الحقيقة، بأن كل شيء منه، يزرع بذور الشكر في القلب ويغير نظرة الإنسان تجاه جميع جوانب الحياة. الخطوة الثانية هي **التذكر المستمر والتفكر في آيات الله**. يدعونا القرآن إلى التدبر والتفكر في خلق الله وظواهر الكون، لنصل من خلال ذلك إلى عظمة الخالق ووفرة نعمه. في سورة آل عمران، الآيتين 190-191، نقرأ: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ»؛ أي: «إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض». التفكر في كيفية إقامة السماوات، وكيف يتغير الطقس، أو كيف تستمر دورة الحياة، كل ذلك يذكرنا بالنعم اللامتناهية التي نستفيد منها يومياً، لكننا نادراً ما ننتبه إليها. هذا التفكر العميق يخرجنا من الغفلة ويوجهنا نحو التقدير، ويجعل كل شروق شمس وكل نفس فرصة للتأمل في كرم الله. الحل الثالث هو **الشكر العملي واللفظي**. الشكر ليس مجرد شعور داخلي، بل يجب أن يظهر في أفعالنا وأقوالنا. يوعد الله في سورة إبراهيم، الآية 7: «لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ»؛ أي: «لئن شكرتم لأزيدنكم، ولئن كفرتم إن عذابي لشديد». الشكر العملي يعني استخدام النعم في المسار الذي يرضي الله؛ مثلاً، استخدام الثروة في سبيل الخير، استخدام الصحة في العبادة وخدمة الخلق، واستخدام العلم لهداية الآخرين. الشكر اللفظي يشمل حمد الله والثناء عليه، وقول «الحمد لله» في كل الأحوال، والتعبير عن الامتنان للنعم. هذا الفعل المستمر يدفع القلب نحو اليقظة والابتعاد عن اللامبالاة، ويخلق سلسلة من البركات في حياة الفرد. النقطة الرابعة هي **مقارنة النفس بمن هم أقل حظاً**. على الرغم من أن القرآن لا يأمر مباشرة بمقارنة الوضع المادي بالآخرين، فإن روح التعاليم القرآنية التي تؤكد على الإحسان، الصدقة، ومساعدة المحتاجين (كما في آيات الزكاة والإنفاق)، تنقل ضمنياً هذا الدرس بأن رؤية وضع المحرومين تجعل الإنسان يقدر نعمه بشكل أكبر. عندما ينظر الإنسان إلى من حرموا من نعم مثل الصحة، الأمن، المأوى، أو حتى الغذاء الكافي، يمكنه أن يكون أكثر امتناناً لما يملك. هذه المقارنة ليست من باب التكبر والخيلاء، بل من باب زيادة البصيرة والشكر، لينصب تركيز الإنسان على ما يملك بدلاً من ما يفتقر إليه، ويستمتع به. النهج الخامس هو **تجنب الإسراف والاستخدام الصحيح للنعم**. يدين القرآن الإسراف بشدة ويعتبره من أفعال الشيطان. في سورة الإسراء، الآيتين 26-27، جاء: «وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ»؛ أي: «ولا تبذر تبذيراً، إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين». الإسراف وسوء استخدام النعم لا يضيع حقوق الناس فحسب، بل هو علامة على عدم تقدير هذه النعمة. بالاستخدام الصحيح والأمثل لما نملك، فإننا في الواقع نظهر امتناننا، وهذا بحد ذاته يمنع اللامبالاة. هذا الاستهلاك الواعي لا يحافظ على الموارد فحسب، بل يجلب البركة إلى الحياة ويعزز شعور الفرد بالمسؤولية. أخيراً، **الذكر الدائم لله** يحافظ على حيوية القلب. في سورة البقرة، الآية 152، يقول الله تعالى: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ»؛ أي: «فاذكروني أذكركم، واشكروا لي ولا تكفرون». الذكر الدائم لأسماء الله وصفاته يجعل الإنسان يرى نفسه دائماً في حضرة الله، وهذا الحضور يمنع الغفلة وعدم الانتباه للنعم. القلب الذاكر والشاكر هو قلب يدرك دائماً النعم الإلهية وهو بعيد عن اللامبالاة. باتباع هذه المبادئ القرآنية، يمكننا تنمية قلب شاكر وروح ممتنة، وحماية أنفسنا من الانغماس في الروتين وإهمال فضل الله الذي لا يحد. هذا المسار ضروري ليس فقط للآخرة، بل أيضاً للسكينة والرضا في هذه الدنيا، ويساعد الإنسان على تذوق حلاوة لطف الرب في كل لحظة من حياته.
يُحكى أن سعدي، في شبابه، كان يعاني من الفقر وعدم امتلاك الأحذية، وكان يشتكي من ذلك بشدة. يمشي في الشارع حزيناً ومكتئباً. في طريقه، التقى برجل ليس لديه قدمان. عندما رآه سعدي، شعر بالخجل من حاله وأدرك كم هي عظيمة النعمة التي منحه الله إياها. سجد فوراً شكراً لله، ومنذ ذلك الحين، لم يشكُ أبداً مما يفتقر إليه، بل كان دائماً شاكراً لنعمه. تعلمنا هذه القصة أن نقدر ما لدينا وأن نكون ممتنين لممتلكاتنا، مهما بدت صغيرة، بدلاً من التوق لما لا نملك.