يؤكد القرآن الكريم على أهمية التفكير، ويعزو عدم التفكر إلى عوامل مثل التقليد الأعمى، والغرور، والتعلق بالدنيا، مما يمنع إدراك الحقائق والهداية. هذه العوائق تمنع الإنسان من استخدام قوة العقل والوصول إلى السعادة الحقيقية.
الإجابة على سؤال لماذا لا يتفكر بعض الناس، لها جذور عميقة وإجابات شاملة في كلام الله تعالى، القرآن الكريم. القرآن، كتاب الهداية والنور، يدعو الإنسان دائمًا إلى التدبر والتعقل والتفكر واستخدام العقل والفكر. هذه الدعوة ليست مجرد توصية أخلاقية، بل هي أمر إلهي ومفتاح للوصول إلى الحقيقة ومعرفة الله. في العديد من الآيات، يشجع الله البشر على النظر في الآفاق والأنفس، أي في آيات الله في الكون وفي أنفسهم، لكي يدركوا عظمة الخالق وهدف الخلق. آيات مثل "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا" (محمد: 24) و "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ" (آل عمران: 190) تؤكد بوضوح أن التفكر من الأركان الأساسية للإيمان والمعرفة. ولكن على الرغم من هذه التأكيدات، يشير القرآن إلى عوائق وأسباب تجعل بعض الناس يغفلون عن هذه النعمة الإلهية العظيمة أو لا يستطيعون استخدامها بشكل صحيح. **1. التقليد الأعمى والارتباط بتقاليد الأجداد:** أحد أهم الأسباب التي يذكرها القرآن لعدم تفكير بعض الأفراد هو تمسكهم الأعمى بتقاليد ومعتقدات آبائهم وأجدادهم. هؤلاء الناس يرفضون اتباع الحقائق الواضحة والآيات الإلهية، لمجرد العادة والتقليد، دون أن يفكروا في مدى صحة أو خطأ ما ورثوه من أسلافهم. يقول القرآن الكريم في سورة البقرة، الآية 170: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَیْنَا عَلَیْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا یَعْقِلُونَ شَیْئًا وَلَا یَهْتَدُونَ" هذه الآية تبين بوضوح أن التقليد دون تفكر هو أكبر عائق أمام النمو الفكري وقبول الحق. هؤلاء الأفراد، لأنهم حبسوا أنفسهم ضمن الإطار المغلق لتقاليد الماضي، يفقدون القدرة على المراجعة والتحليل المنطقي. حتى لو قُدمت لهم أدلة قوية وبراهين واضحة لتغيير مسارهم، فإنهم يفضلون البقاء في طريقهم المألوف والمريح، لأن التفكير والتغيير يتطلبان جهدًا وخروجًا من منطقة الراحة الذهنية. هذه العادة في التقليد لا تظهر فقط في المسائل الدينية، بل في الأمور الاجتماعية والثقافية أيضًا، مما يعيق تقدم المجتمع ويحصر العقول في حلقة مفرغة وغير مثمرة. **2. الغفلة وعمى القلوب (الختم على القلوب):** يشير القرآن الكريم إلى ظاهرة تسمى "الختم" أو "الطبع" على القلوب. تحدث هذه الحالة عندما يفقد الإنسان القدرة على فهم الحقيقة وقبولها بسبب كثرة الذنوب، ومخالفة الحق، والإصرار على طريق الباطل. هذا الختم على القلب ليس إجبارًا من الله، بل هو نتيجة طبيعية وعاقبة لأعمال الإنسان نفسه. في سورة الأعراف، الآية 179، جاء: "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا یَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْیُنٌ لَّا یُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا یَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ" هذه الآية توضح بوضوح أن هؤلاء الأفراد يمتلكون أدوات التفكير والفهم (القلب، العين، الأذن)، لكنهم لا يستخدمونها في المسار الصحيح، ولذلك ينحدرون إلى مستوى الحيوانات، بل يكونون أضل سبيلاً. الغفلة، وهي نسيان الهدف الأساسي للحياة والانشغال بأمور تافهة، تجعل الإنسان يغفل عن الآيات الإلهية من حوله ولا يعتبر بها. هذه الغفلة بمرور الوقت تؤدي إلى سلب توفيق التفكر الصحيح ورؤية الحقائق. يغرقون في هاوية اللاوعي ويحرمون أنفسهم من بركات التفكير والوصول إلى الحكمة. هذه الحالة النفسية تهيئ بيئة لا يرغب فيها الإنسان بعد الآن في التأمل في آيات الله، أو علامات الخلق، أو حتى نتائج أفعاله الخاصة، ويبقى في ظلام جهله. **3. الغرور والاستكبار:** عامل آخر يمنع التفكر الصحيح هو صفة الغرور والاستكبار. الأفراد المتكبرون، لأنهم يرون أنفسهم أفضل من الآخرين ويعتبرون أنفسهم مستغنين عن الهداية والنصيحة، لا يرضون بالاستماع إلى الحق والتأمل فيه. يعتقدون أنهم يعلمون كل شيء ولا يحتاجون إلى مزيد من التفكير أو قبول وجهات نظر جديدة. يقول القرآن الكريم في سورة الأعراف، الآية 146: "سَأَصْرِفُ عَنْ آیَاتِيَ الَّذِينَ یَتَكَبَّرُونَ فِی الْأَرْضِ بِغَیْرِ الْحَقِّ وَإِن یَرَوْا كُلَّ آیَةٍ لَّا یُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن یَرَوْا سَبِیلَ الرُّشْدِ لَا یَتَّخِذُوهُ سَبِیلًا وَإِن یَرَوْا سَبِیلَ الْغَیِّ یَتَّخِذُوهُ سَبِیلًا ۗ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآیَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ" هذه الآية تبين بوضوح أن الكبر يمنع رؤية الحق وقبوله ويصد الإنسان عن التفكر المنطقي. الغرور يجعل الإنسان ينكر آيات الحق حتى لو رآها بعينه، ويمتنع عن التأمل فيها. مثل هذا الشخص، بدلًا من التفكر في البراهين، ينغمس في الجدل والعناد، ويحرم نفسه من نعمة عظيمة كالبصيرة والهداية الإلهية. هذه الخصلة المذمومة تغلق أمام الإنسان أبواب العقل وتحبسه في سجن غروره الذاتي. **4. اتباع الهوى والتعلق بالدنيا:** يحذر القرآن مرارًا وتكرارًا من أن اتباع الهوى (الشهوات والرغبات الشخصية) والتعلق الشديد بملذات الحياة ومظاهرها الدنيوية، يحرف الإنسان عن طريق الحق والتفكير الصحيح. فعندما تغلب الشهوات والتطلعات المادية على العقل والحكمة، لا يجد الإنسان فرصة أو رغبة في التفكر في المسائل الوجودية والروحية الأعمق. في سورة الجاثية، الآية 23، يقول تعالى: "أَفَرَأَیْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً ۖ فَمَن یَهْدِیهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۗ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ" هذه الآية تبين بوضوح أن اتباع الهوى يمكن أن يؤدي إلى الضلال وإغلاق سبل التفكير والهداية. التعلق بالدنيا والمال والمكانة، يحرف الإنسان عن الهدف الأساسي للخلق وطريق الكمال، ويشغل ذهنه فقط بالقضايا المادية الزائلة. ونتيجة لذلك، لا يبقى وقت للتأمل في الآيات الإلهية، ومعنى الحياة، والمصير الأبدي، ويقع الإنسان في دائرة لا نهائية من الرغبات المادية، ويُحرم من الوصول إلى السلام الروحي والمعرفة الحقيقية. **5. عدم تحمل المسؤولية واللامبالاة:** سبب آخر لعدم التفكر هو عدم الشعور بالمسؤولية تجاه الحقيقة واللامبالاة تجاهها. بعض الأفراد يفضلون البقاء في جهلهم حتى لا يواجهوا حقائق قد تتطلب تغييرات في حياتهم. هذه اللامبالاة بمرور الوقت تتسبب في تعطل عقولهم وقلوبهم، مما يؤدي إلى فقدان القدرة على التمييز بين الحق والباطل. **الخلاصة:** من منظور القرآن الكريم، التفكر ليس مجرد قدرة بشرية بل هو مسؤولية إلهية. عدم التفكر دليل على ضعف الإيمان والابتعاد عن طريق الهداية، وله جذور متعددة تعود غالبًا إلى خيارات الإنسان نفسه. التقليد الأعمى، الغفلة وعمى القلوب الناتج عن الذنوب، الغرور والاستكبار، واتباع الهوى والتعلق بالدنيا، هي من أهم العوائق أمام التفكر الصحيح. يؤكد القرآن على هذه العوائق، وفي الواقع، يحذر الإنسان من أن يحافظ على قلبه وعقله لكي يستخدم هذه النعمة الإلهية بأفضل شكل ممكن ويحقق النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة. فتح أبواب القلب نحو الحق، وترك التعصبات، والسعي لفهم الآيات الإلهية، هو السبيل للخروج من حالة الغفلة هذه وبدء طريق التفكر والتعقل الحقيقي. هذا الأمر ضروري ليس فقط للنمو الفردي، بل لتقدم وسمو المجتمعات الإنسانية أيضًا. القرآن الكريم، بدعوته المستمرة للتفكر، يمهد الطريق للوصول إلى معرفة أعمق بالذات، وبالعالم، وبخالق الوجود، ويعلمنا كيف نحقق السعادة والكمال باستخدام قوة العقل، ونسير على طريق مرضاة الله.
يُروى أنه في قديم الزمان، كان هناك تاجر ثري لا يفكر إلا في جمع المال وزيادة ثروته. كلما رأى الحكماء والعلماء يتأملون في أسرار الوجود وعواقب الأمور، كان يسخر منهم قائلًا: "هؤلاء يسعون وراء أوهام فارغة؛ يجب كسب الخبز بعرق الجبين، لا بالتفكير في السماء." في أحد الأيام، قال له حكيم رحيم: "يا تاجر، المال والثروة، وإن كانا نعمة، فإنهما إذا لم يصحبهما عقل وتدبير، سرعان ما يزولان ويجلبان الندم لصاحبهما. لماذا لا تتوقف لحظة عن صخب السوق وتتأمل في حالك وفي نهاية أمر الدنيا؟" أجاب التاجر بغطرسة: "ما لي ولهذا الكلام؟ أنا مشغول بتجارتي وليس لدي وقت للتفكير." واستمر في جمع المال، محرمًا نفسه من عشم روضة التفكر. لم يمض وقت طويل حتى انقلبت عليه الأيام، ونهبت ثروته، ولم يتبق له إلا الحسرة والندم. حينها تذكر كلمات الحكيم وأدرك أن التفكير والبصيرة أثمن من أي كنز يُكتسب، وأن الغفلة كالحجاب الذي يعمي عين الإنسان عن رؤية الحقيقة.