لا، الانعزال المطلق عن الناس ليس علامة على العرفان في الإسلام. يؤكد القرآن الكريم على المشاركة الفعالة في المجتمع، وأداء الواجبات الاجتماعية، وخدمة الخلق؛ ويتحقق العرفان الحقيقي من خلال التفاعل البناء مع الناس مع قلب متوجه نحو الله.
إن فهم مفهوم 'العرفان' في الإسلام وعلاقته بالوجود أو الابتعاد عن المجتمع هو أحد النقاط المحورية في السلوك الروحي. وخلافًا لبعض المفاهيم الخاطئة، فإن الانعزال المطلق والدائم عن الناس ليس علامة على العرفان والكمال الروحي في المنظور القرآني، بل إنه في كثير من الحالات يتعارض مع تعاليم الإسلام الأساسية. يؤكد القرآن الكريم باستمرار على أهمية الوجود الإنساني الفعال والمسؤول في المجتمع، وأداء الواجبات الاجتماعية، وإعطاء الحقوق للآخرين، ونشر الخير ومحاربة الشر. العرفان الحقيقي من منظور القرآن يعني المعرفة العميقة والشهودية بالذات الإلهية المقدسة وصفاتها، وهذه المعرفة لا تكتمل في الانعزال، بل تبلغ أوجها وتتجلى في صلب الحياة والتفاعلات الاجتماعية. العارف الحقيقي ليس من يهرب من المجتمع، بل هو من يكون حاضرًا فيه ويؤدي مسؤولياته، بينما قلبه متوجه باستمرار إلى الله، ويقوم بأعماله بنية إلهية خالصة. يدعو القرآن المؤمنين إلى التعاون على البر والتقوى، لا على الإثم والعدوان. وهذه الدعوة إلى التعاون تستلزم الوجود في الجماعة والتفاعل البناء مع الآخرين. وقد أكد الله تعالى في آيات متعددة على أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هذه الفريضة الدينية لا يمكن تحقيقها دون اتصال مباشر ومستمر بالناس؛ لأنها تتطلب معرفة قضايا المجتمع، وتمييز الخير من الشر، ثم الدعوة إلى الخير والنهي عن الشر. ومثل هذه الرسالة تحول الفرد إلى كائن فعال ومسؤول تجاه مجتمعه، ولا تتوافق مع الانعزال. النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وسلم)، الذي كان أكمل مثال للإنسان العارف والقائد الروحي، لم يبتعد عن الناس قط. كانت حياته مليئة بالتفاعلات مع أفراد مختلفين، من فقير وغني، وصديق وعدو، ومليئة بالمسؤوليات الاجتماعية والسياسية والعسكرية والأسرية. كان مواطنًا مثاليًا، ومعلمًا رحيمًا، وقاضيًا عادلًا، وقائدًا شجاعًا، وأبًا حنونًا. وكل هذه الأدوار أُديت في سياق المجتمع ومع الوجود الفعال بين الناس. حتى فترات خلوة النبي في غار حراء قبل البعثة كانت فترة مؤقتة للتأمل والإعداد الروحي، وليست أسلوب حياة دائمًا. فبعد البعثة، عاد إلى الناس ليؤدي رسالته. الإسلام ليس دين رهبانية (ترك الدنيا والانعزال التام). لقد ذم الله تعالى في القرآن الكريم صراحة هذه الأنواع من الرهبانيات التي ابتدعها الناس دون أمر إلهي، واعتبرها بدعًا لا تتوافق مع التعاليم الحقيقية. توضح الآية 27 من سورة الحديد هذا الأمر بجلاء: 'وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ'. هذا يشير إلى أن التقشفات التي تتم بدون هداية إلهية ومجردًا من الرغبة الشخصية في ترك الدنيا، ليست مدعومة. ومع ذلك، هذا لا يعني نفي 'الاعتكاف' أو 'الخلوات المؤقتة' للتفكير، والعبادة الأعمق، أو تزكية النفس. فهذه الخلوات هي وسيلة لتقوية الروح والعودة بقوة أكبر إلى ميدان المجتمع وخدمة الخلق، وليست هدفًا نهائيًا. العارف الحقيقي هو من يرى الدنيا وجمالها ولكن قلبه لا يتعلق بها. يعيش بين الناس، ويتعاون معهم، ولكنه لا يكون أسيرًا للتعلقات الدنيوية. إنه يعلم أن رضا الله يكمن في خدمة خلقه. مساعدة المحتاجين، ورعاية الأيتام والمساكين، وإقامة العدل، وحل النزاعات، والحفاظ على صلات القرابة والروابط الاجتماعية، كلها أمثلة واضحة على العبادة التي تتحقق في صلب الحياة الاجتماعية وتضيف إلى كمال الإنسان الروحي. العرفان نور معرفة يضيء في قلب الإنسان، وتظهر ثماره في سلوكه وتعامله مع خلق الله. إذا أدى العرفان إلى الانعزال المطلق، فكيف يمكن أن يكون مثمرًا ويساعد في هداية الآخرين؟ لذا، يمكننا أن نستنتج أن العرفان الإسلامي ليس ابتعادًا عن الناس، بل هو في عمقه يدفع الإنسان نحو الالتزام الاجتماعي، وتقديم الخدمة، وأداء دور بناء في المجتمع. العارف الحقيقي هو من يكون بين الناس، يفهم مشاكلهم، ويسعى لحلها، بينما قلبه متصل دائمًا بالخالق، يستمد منه العون. هذا التوفيق الجميل بين الحضور الفعال في الدنيا وقلب متصل بالآخرة هو جوهر العرفان القرآني. وبالتالي، فإن أي دعوة للانعزال التام باسم العرفان، هي في الحقيقة انحراف عن المسار الصحيح لتعاليم الإسلام، ويجب تجنبها. مسار العرفان الإسلامي هو مسار يدعو الإنسان، مهما كان موقعه، نحو العمل الصالح، وخدمة الخلق، والتقرب إلى الحق. وهذا يعني أن التاجر، والمعلم، والعامل، والسياسي يمكن أن يكونوا عرفاء إذا قاموا بأعمالهم وفق الموازين الإلهية ولرضا الله، ولم يغفلوا عن حقوق الناس. العرفان حالة قلبية وروحية تتجلى في الأعمال الخارجية ولا يمكن حصرها في الانعزال.
ذات مرة، في سالف الأزمان، كان ناسك منعزل يعيش لسنوات في جبل منعزل، يكرس نفسه للعبادة والرياضة الروحية. كان يظن أنه بابتعاده عن الخلق، قد وصل إلى المعرفة الإلهية وتحرر من صخب الدنيا. ولكن، في نفس البلدة، انتشر مرض شديد، وصرخ الناس من الألم والمعاناة. زاره رجل حكيم، وكان على دراية بحال الناسك، وقال له: «يا أيها الناسك، أنت في هذا الركن الهادئ تذكر الله، ولكن في المدينة، آلاف القلوب المضطربة والأجساد المريضة بحاجة إلى المساعدة. هل تظن أن الله، خالق جميع المخلوقات، سيرضى عنك وأنت في راحتك غافل عن حال عباده؟ العرفان الحقيقي هو أن تنفتح عيناك لترى آلام الخلق، وتمتد يدك لمساعدتهم، ويكون وجودك مصدر خير وبركة للآخرين. القلب المنور هو ذلك القلب الذي، من خلال حب الخالق، يصل إلى حب المخلوقين ويعد خدمة الخلق عبادة.» استيقظ الناسك من كلام الرجل الحكيم، وتاب عن عزلته، وعاد إلى الناس. أدرك أن طريق العرفان الحقيقي ليس في الابتعاد عن الخلق، بل في التواصل معهم وخدمتهم، وأن رضا الله يكمن في خدمة خلقه.