القرآن الكريم يعلمنا بناء العلاقات على الثقة المتبادلة من خلال التأكيد على تجنب سوء الظن، وضرورة التبين والتحقق، وترك الحكم النهائي على النوايا لله، مع الحفاظ على الحكمة وحسن الظن. هذا النهج يسهم بشكل كبير في رفاه الفرد والمجتمع.
في الإجابة على سؤال "كيف أثق بنوايا الآخرين الحسنة؟"، يجب الإشارة إلى أن القرآن الكريم لا يقدم صيغة مباشرة ومحددة لكيفية "الثقة بنوايا الآخرين الحسنة"، بل يضع مبادئ عامة وعميقة توجه التفاعلات البشرية، وتحكم طريقة الحكم على الأفراد، وتُعلّم كيفية إدارة الظنون والشكوك. هذه المبادئ مجتمعة تخلق بيئة مواتية للثقة المتبادلة. إن المنهج القرآني يقوم على التوازن: لا سذاجة عمياء، ولا تشككاً وبدائية دائمة. الثقة في الإسلام مفهوم عميق ومتعدد الأوجه يبدأ بالتوكل على الله وينتهي بحسن الظن بعباده، مع مراعاة الحكمة والفطنة اللازمتين. من أهم التوجيهات القرآنية الأساسية في هذا الصدد هو تجنب الظن السيء والمفرط. ففي سورة الحجرات، الآية 12، يقول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ». تحذر هذه الآية بوضوح من أن الظنون السيئة وغير المبررة بالآخرين يمكن أن تؤدي إلى الإثم وتفسد العلاقات الإنسانية. والمقصود بـ "كثيرًا مِّنَ الظَّنِّ" هو الظنون السلبية التي لا تستند إلى دليل قاطع، بل تتشكل بناءً على التخمينات والشكوك. غالبًا ما يكون هذا النوع من سوء الظن هو أصل العديد من النزاعات والأحقاد والتباعدات داخل المجتمع، ومع مرور الوقت، يمكن أن يؤدي إلى تآكل الثقة العامة. على النقيض من سوء الظن هذا، فإن المنهج المستحب في الإسلام هو "حسن الظن" تجاه الإخوة والأخوات في الإيمان. هذا يعني أن نضع الأصل على النية الحسنة والعمل الصالح، ما لم توجد أدلة قوية وواضحة تثبت خلاف ذلك. لا يؤدي هذا المنهج إلى راحة البال للفرد فحسب، بل يوفر أيضًا أساسًا مناسبًا لتكوين علاقات صحية قائمة على الثقة داخل المجتمع. عندما يشعر الأفراد بأن مجتمعهم يقوم على مبدأ البراءة وحسن النية، لا الاتهام وسوء الظن، فإنهم يجدون شجاعة وحافزًا أكبر لإظهار الخير والتعاون المشترك. يعتبر هذا المبدأ القرآني حجر الزاوية في الصحة النفسية الفردية والاجتماعية، ويمنع الوقوع في فخ الأفكار السلبية والأحكام المتسرعة. إن حسن الظن بالآخرين يعتبر بحد ذاته نوعًا من العبادة، لأنه يؤدي إلى تجنب التجسس والغيبة والبهتان. المبدأ القرآني الثاني البالغ الأهمية هو ضرورة "التبين" أو التحقق والتحقيق قبل إصدار الأحكام. في سورة الحجرات، الآية 6، ورد: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ». على الرغم من أن هذه الآية تتحدث تحديداً عن الأخبار التي يأتي بها الفاسق، إلا أنها تحمل درسًا عامًا وحيويًا: لا تحكم أبدًا بناءً على الأقاويل أو الشائعات أو الشكوك غير المؤكدة، ولا تقوض مصداقية نوايا الآخرين وأفعالهم. لكي نثق بنوايا الآخرين، لسنا مطالبين بأن نكون ساذجين بشكل أعمى؛ بل يجب أن نتصرف بذكاء. هذا يعني أنه إذا صدر عن شخص سلوك أو قول يبدو محل تساؤل، فبدلاً من التسرع في الحكم وإسناد نية سيئة، يجب علينا أولاً السعي لتوضيح الأمر. يشمل هذا "التبين" طرح الأسئلة، والبحث، وجمع المعلومات الكافية. إذا تصرف الإنسان دون تحقيق، بالاعتماد فقط على شكوكه، فقد لا يظلم شخصًا بريئًا فحسب، بل قد يدمر علاقته به تمامًا، مما يؤدي إلى الندم. يعلمنا هذا المبدأ القرآني أنه للحفاظ على الثقة في المجتمع، يجب أن نكون حذرين بشأن مصادر معلوماتنا وألا نقبل كل ما نسمعه دون تفكير نقدي وتحقق من صحته. التبين هو مفتاح العدالة ومنع الظلم. علاوة على ذلك، في المنظومة الفكرية الإسلامية، يُترك الحكم النهائي على النوايا لله تعالى. فالبشر ملزمون بالحكم بناءً على الظاهر من أفعال وسلوكيات الأفراد، وليس بناءً على ما يكمن في قلوبهم. وقد كان النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) يتعامل مع الناس بناءً على ظاهر إسلامهم، تاركًا بواطنهم لله. وهذا يعني أنه إذا أظهر شخص عملًا صالحًا أو قولًا طيبًا، فيجب علينا أن نحمله على الصحة والنية الحسنة، ما لم توجد أدلة قوية لا تقبل الشك تثبت عكس ذلك. إن محاولة الكشف عن النوايا الخفية أو الاستسلام لنظريات المؤامرة ليست فقط مذمومة أخلاقياً، بل تضع عبئًا ثقيلًا على النفس البشرية، وتحرمها من السكينة والتركيز على حياتها. يضمن هذا النهج أن الأفراد يحملون شكوكًا أقل في تفاعلاتهم اليومية ويمكنهم مد يد العون للآخرين بسهولة أكبر. إن الثقة بنوايا الآخرين الحسنة هي، في جوهرها، استثمار إيجابي في العلاقات الإنسانية يمكن أن يؤتي ثماره. عندما نثق بالآخرين، فإنهم بدورهم يصبحون أكثر ميلاً ليكونوا صادقين ويثقوا بنا. هذه الدورة الإيجابية تشكل أساس العلاقات القوية والمستقرة. بالإضافة إلى ذلك، يؤكد القرآن على أهمية "العفو" و"الصفح" في العلاقات الإنسانية. ففي سورة النور، الآية 22، يقول الله تعالى: «وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَکُمْ». هذه الروح من التسامح والتغاضي عن الأخطاء الصغيرة لا تجلب السلام للفرد فحسب، بل تخلق بيئة تُحل فيها سوء التفاهمات بسرعة، مما يتيح لبذور الثقة أن تنمو. عندما يعلم الأفراد أن مجتمعهم وأفراده يمتلكون القدرة على العفو والتسامح، فإنهم ينخرطون في التفاعلات بثقة أكبر. هذا لا يعني تجاهل الحقوق، بل يعني تفضيل العفو والمصالحة حيثما أمكن، على الاستياء والريبة. وإلى جانب ذلك، تؤكد الآية 10 من سورة الحجرات: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ»، على ضرورة الأخوة والتضامن، والتي تقوم أساسًا على الثقة المتبادلة. هذه الأخوة تقتضي أن نكون حسني الظن بنوايا بعضنا البعض. وأخيرًا، إلى جانب كل هذه المبادئ، يؤكد الإسلام أيضًا على أهمية الذكاء والفطنة. فالثقة بنوايا الآخرين الحسنة لا تعني التخلي عن الحذر والحكمة. بل تعني أن نتصرف في علاقاتنا ببصيرة، وفي الوقت نفسه نكون متفائلين، وألا ننخدع بالمظاهر أو الكلمات الخادعة. ومع ذلك، يجب ألا يتحول هذا الذكاء إلى وسواس أو شك مرضي. هناك خط رفيع بين الحذر المعقول والتشاؤم المفرط. يؤكد القرآن والسنة النبوية باستمرار على الاعتدال والوسطية في جميع الأمور. لذلك، للثقة بنوايا الآخرين الحسنة، يجب تجنب سوء الظن غير المبرر، والتحقيق في المعلومات، والحكم بناءً على الظاهر من الأفعال، والاستفادة من العفو والتسامح، وفي النهاية، بناء العلاقات على أساس الثقة بالتوكل على الله ومراعاة الحكمة اللازمة. لا يساعدنا هذا النهج الشامل على العيش بسلام أكبر داخل المجتمع فحسب، بل يمهد الطريق أيضًا لنمو الفضائل الأخلاقية والتضامن الاجتماعي. فالمؤمن، بينما يتوكل على الله في كل مسعى، لا يغفل عن استخدام عقله وفطنته، ويتعامل مع من حوله بنظرة إيجابية ولكن يقظة. هذا التوازن هو جوهر الثقة من المنظور القرآني، مما يعزز مجتمعًا صحيًا وأكثر رحمة.
يُحكى أنه في يوم من الأيام، كان رجلٌ طيب النفس يسير في سفر برفقة درويش حكيم. فشاهدا درويشًا آخر جالسًا على جانب الطريق، وبيده قطعة خبز. تعجب الرجل الطيب حين رأى الدرويش لا يأكل خبزه ولا يعطيه لغيره، وكأنه ينوي الاحتفاظ به لنفسه. في قرارة نفسه، اتهم الرجل الدرويش بالبخل، وفكر في نفسه: «أي نوع من الدرويش هذا الذي لا يطعم خبزه للمحتاجين؟». لكن الدرويش الرفيق، الذي كان يتحلى بالحكمة، قال بابتسامة طيبة: «يا صديقي، لا تتعجل في الحكم على أحوال الناس، ولا تحمل الظن السيء. ربما هناك نية أخرى وراء هذا الفعل لا نعلمها، والله أعلم بما في النفوس.» لم يمضِ وقت طويل حتى وصل رجل فقير ومريض بخطوات متثاقلة وبصعوبة بالغة. فنهض الدرويش الأول وقدم خبزه إليه بكل لطف، قائلاً: «لقد احتفظت بهذا الخبز لك، لأني علمت أنك ستكون أضعف وأكثر احتياجًا من غيرك.» في تلك اللحظة، ندم الرجل الطيب على حكمه المتسرع، وأدرك أن الله وحده يعلم النوايا، وأن المظهر الخارجي للعمل أحيانًا لا يكشف عن الباطن والنية الحسنة، وأنه يجب الالتزام بمبدأ الأخوة وحسن الظن.