يعلمنا القرآن أن نتعامل مع عدم الاحترام بالصبر وحفظ الوقار، وأن ندفع السيئة بالحسنة لتحويل العداوة إلى صداقة، وأن نعرض عن الجاهلين للحفاظ على السلام الداخلي.
تعتبر مواجهة عدم الاحترام أحد التحديات الشائعة في الحياة الاجتماعية التي يمكن أن تعكر صفو الروح. يقدم القرآن الكريم، بصفته كتاب هداية، توجيهات شاملة للتعامل مع مثل هذه المواقف. لا تساهم هذه التوجيهات في الحفاظ على الهدوء الداخلي فحسب، بل تمهد الطريق أيضًا لتحويل العداوة إلى صداقة. يرتكز هذا النهج القرآني على مبادئ أخلاقية عميقة، وصبر، وحكمة، وضبط للنفس، وهو دليل على قوة الإيمان الحقيقية والشخصية الرفيعة، وليس ضعفًا أو سلبية. من أبرز التعاليم القرآنية في هذا الصدد هو مفهوم «الصبر» و«الوقار» في مواجهة السلوك الجاهل. في سورة الفرقان، الآية 63، يصف الله صفات «عباد الرحمن» (عباد الله الخاصين) بقوله: «وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا»؛ أي «وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض بسكينة ووقار وتواضع، وإذا خاطبهم الجهال بما يكرهون من القول، أجابوا بالقول الطيب المعروف الذي يسلمون فيه من الإثم». هذه الآية عميقة جدًا ولا تعني مجرد قول كلمة «سلام». بل تعني اتخاذ موقف مسالم وغير تصادمي. عندما يخاطبك شخص جاهل (ليس فقط من ناحية التعليم، بل من ناحية العقلانية، وضبط النفس، والأخلاق) بعدم احترام، فإن الرد بـ«سلام» يعني الانسحاب المحترم من الجدال ورفض الانحدار إلى مستوى الشتم والنزاع. هذا الرد يدل على الهدوء الداخلي، وعدم الرغبة في الانخراط في صراع لا طائل من ورائه، والحفاظ على الكرامة وسمو النفس. إنه في الواقع رد فعل حكيم يمنع الانخراط في جدال لا طائل من ورائه ويحمي طاقة الفرد من التبديد في النزاعات غير المثمرة. هذا النهج لا يسمح لعدم احترام الآخر بأن يعكر صفو السلم والهدوء الداخلي للمؤمن. المبدأ الثاني، وربما الأكثر تحديًا وتحويلاً، هو دفع السيئة بالحسنة. في سورة فصلت، الآيتين 34 و 35، يقول الله تعالى: «وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ»؛ أي «ولا تستوي الطاعة والمعصية، ولا الحسنة والسيئة. ادفع السيئة بالخصلة الحسنة التي هي أحسن؛ فإذا فعلت ذلك، صار الذي بينك وبينه عداوة كأنه قريب مشفق. وما يوفق لهذا الخلق الحسن إلا الذين صبروا أنفسهم على ما تكره، ولا يوفق له إلا صاحب حظ عظيم من الخير والثواب». تقدم هذه الآيات استراتيجية فعالة وثورية لمواجهة العداوة وعدم الاحترام. فبدلاً من الرد على السيئة بالسيئة أو حتى بالصمت فقط، ينصح القرآن بالرد «بما هو أحسن». «أحسن» يمكن أن تكون كلمة طيبة، أو عملًا من أعمال العفو، أو لفتة من فهم وتعاطف، أو رد فعل هادئ ومنطقي يفاجئ الطرف الآخر ويجرده من سلاحه. الهدف ليس فقط منع تصعيد النزاع، بل تحويل العلاقة العدائية إلى علاقة ودية ومحترمة. هذا التحول يبرز القوة التحويلية للخير. لكن القرآن يؤكد أن الوصول إلى هذه المرتبة يتطلب «صبرًا عظيمًا» و«حظًا عظيمًا» من الإيمان والبصيرة. وهذا يدل على أن هذا السلوك علامة على النضج الروحي وضبط النفس العالي جدًا، وليس كل شخص قادرًا على تحقيقه، إلا من آتاهم الله توفيقًا إلهيًا وصبرًا لا ينفد. المبدأ الثالث المهم، والمكمل للمبادئ السابقة، هو «الإعراض عن الجاهلين». في سورة الأعراف، الآية 199، نقرأ: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ»؛ أي «خذ ما سهل عليك من أخلاق الناس ولا تستقص عليهم، وأمر بكل ما عرف حسنه شرعًا وعقلاً، وأعرض عن مناقشة الجهال ومساجلتهم». توصي هذه الآية، بجانب الأمر بالعفو والأمر بالمعروف، بالإعراض عن الجاهلين. هذا الإعراض لا يعني اللامبالاة أو الضعف، بل هو اختيار ذكي لعدم الانخراط في النقاشات والجدالات غير المثمرة مع أولئك الذين هدفهم فقط الاستفزاز وعدم الاحترام، ولا يميلون إلى المنطق والفهم. في بعض الأحيان، يؤدي استمرار النقاش أو محاولة الإصلاح إلى زيادة التوتر وهدر الوقت والطاقة فقط. في هذه الحالة، الانسحاب مع حفظ الكرامة هو أفضل حل. هذا الإعراض هو حماية للمساحة الشخصية والروحية للفرد من التلوث اللفظي والسلوكي للجاهلين. هذه المبادئ الثلاثة معًا تقدم نموذجًا شاملاً للتعامل مع عدم الاحترام، يؤكد من ناحية على الحفاظ على الهدوء والوقار الداخلي، ويدعو من ناحية أخرى إلى تحويل العلاقات من خلال الإحسان، ويهيئ في النهاية الطريق للانسحاب الذكي من المواقف السلبية. في الختام، تعلمنا هذه التعاليم القرآنية أن التعامل مع عدم الاحترام هو عملية داخلية أكثر منه رد فعل خارجي. يتطلب ذلك تقوية التقوى (مخافة الله والتوجه إليه)، ومعرفة الذات، والممارسة المستمرة لضبط النفس. عندما ندرك أن العزة والكرامة الحقيقية تأتي من الله، وليس من رضا الآخرين أو سخطهم، فإن كلمات عدم الاحترام تصبح أقل قدرة على إيذائنا. يساعدنا هذا النهج على تركيز اهتمامنا على الأهداف الأسمى والحفاظ على الهدوء الداخلي، ويحمينا من الغرق في مستنقع الأحقاد والنزاعات غير المثمرة. في الواقع، الصبر، والعفو، والرد بالإحسان في مواجهة عدم الاحترام، هي علامات على ذروة النضج الروحي والفكري للمؤمن الذي يمكن أن يتحول، حتى في خضم الأزمات، إلى مصدر للهدوء والبناء، ويساهم في نهاية المطاف في إقامة علاقات إنسانية أكثر صحة ومجتمع أكثر رقيًا.
يروى أنه ذات يوم، في أحد الطرقات، ألقى رجل جاهل الشتائم وأظهر عدم الاحترام لحكيم عالم. فخفض الحكيم رأسه، ودون أن ينبس ببنت شفة، مر بجانبه بوقار. سأل تلميذ كان شاهدًا على الموقف بدهشة: "يا أستاذ، لماذا لم ترد عليه؟ ألم يكن من المناسب أن تذكره بأدبه؟" ابتسم الحكيم وقال: "يا بني، سوق الدنيا مليء بالبضائع المتنوعة. فبعضهم يبيع الذهب والمجوهرات، وبعضهم يبيع السلع والطعام، وآخرون يبيعون بضاعة الكلام المرير والحقد وقلة الأدب. فليذهب كل شخص إلى منزله ويعرض ما لديه. أما أنا فلم أشترِ شيئًا ممن لم يكن لديه بضاعة سوى الغضب وسوء الأدب. لأني أنا نفسي أمتلك رأسمال من الهدوء والكرامة، ولم أكن بحاجة لما كان يعرضه. أليس من غير اللائق أن أفقد رأسمالي الثمين لشراء بضاعة لا قيمة لها؟" أدرك التلميذ أن أفضل رد أحيانًا هو الامتناع عن الدخول في ساحة عدم الاحترام والحفاظ على وقار الذات.