الله في ذاته رحيم لا متناهي، ورحمته لا تزداد بضعفنا. لكن في ضعفنا، نتوكل عليه أكثر ونصبح أكثر استعدادًا لتلقي وفهم رحمته اللامتناهية بعمق أكبر.
فهم العلاقة بين ضعف الإنسان ورحمة الله هو أحد أعمق التعاليم القرآنية وأكثرها راحة للقلوب المضطربة. يعرف الله تعالى نفسه في القرآن بصفات مثل "الرحمن" (الرحيم للغاية تجاه جميع المخلوقات) و "الرحيم" (الرحيم للغاية تجاه المؤمنين والصالحين). تشير هذه الصفات إلى أن الرحمة الإلهية جوهرية وشاملة، وتغطي الوجود كله، لا أنها تظهر في أوقات معينة فقط أو تزداد بحالة معينة للإنسان. رحمة الله، كالنور الأبدي، تسطع على كل شيء؛ لكن كيفية تلقي هذا النور وتجربته يمكن أن تتأثر بحالة الإنسان. يجب أن نفهم أن رحمة الله لا تعتمد على قوة الإنسان أو ضعفه؛ بمعنى أن الله، في ذاته، هو دائمًا وأبدًا الأرحم في كل حال. هو، في أوج قوته وجلاله، مصدر الرحمة اللامتناهية. ولكن عندما يجد الإنسان نفسه في حالة ضعف، عجز، مرض، فقر، أو يأس، فإن حجب الكبرياء، والاعتماد على الذات، والغفلة تزول. في هذه الحالة، يرى الإنسان نفسه صغيراً ومحتاجاً، ويتجه بكل وجوده نحو المصدر الأبدي للقوة والرحمة، وهو الله. هذا التوجه، وهذا التضرع، وهذا الاعتراف بالضعف والحاجة، يفتح أبواب القلب لتلقي ولمس رحمة الله بعمق أكبر. لذلك، ليس الأمر أن الله "يصبح أكثر رحمة" بضعفنا، بل نحن في ضعفنا، نكتسب استعداداً أكبر لفهم واستيعاب رحمته اللامتناهية. القرآن الكريم مليء بالآيات التي تؤكد هذه الحقيقة. في العديد من الآيات، يتحدث الله عن عباده الذين يلجأون إليه في الشدائد والصعاب، ويعدهم بالإجابة والنصرة. فمثلاً في سورة النمل الآية 62 يقول: "أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ". كلمة "المضطر" تعني الذي بلغ أقصى درجات الضعف والاضطرار. هذه الآية تُظهر بوضوح أنه في أوج الضعف والاضطرار يلجأ الإنسان بكل كيانه إلى الله، والله يستجيب دعاءه. وهذا تجلي خاص لرحمته. بالإضافة إلى ذلك، فإن الاعتراف بالذنب وطلب المغفرة، وهو بحد ذاته نوع من الاعتراف بالضعف والعجز أمام الوساوس والأخطاء، هو طريق إلى رحمة الله الواسعة. في سورة الزمر الآية 53 جاء: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ یَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِیعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِیمُ". هذه الآية تصرح بأن رحمة الله ومغفرته واسعتان إلى حد أنهما تشملان أكبر الذنوب، بشرط أن يعود العبد إليه معترفاً بضعفه وندمه. علاوة على ذلك، قصص الأنبياء في القرآن تشهد على هذه الحقيقة. سيدنا أيوب (عليه السلام) في أوج مرضه وضعفه الجسدي، نال رحمة خاصة من الله بصبره وتوكله عليه، وزالت عنه جميع مصائبه (سورة الأنبياء، الآيات 83-84). وسيدنا يونس (عليه السلام) أيضاً في ظلمات بطن الحوت وفي أوج العجز، اعترف بضعفه وتاب، فجرّب رحمة الله (سورة الأنبياء، الآية 87). هذه أمثلة تُظهر أن الضعف، إذا رافقه الاستسلام والتوكل على الله، يمكن أن يكون طريقاً لتحقيق النعم والرحمات الإلهية الخاصة. في الختام، يمكن القول أن ضعفنا هو فرصة لمعرفة الله بعمق أكبر والثقة الكاملة به. في لحظات الضعف يجد الإنسان نفسه عارياً وبلا حاجة لأي واسطة، فيتمسك بحبل الله المتين وحده. هذا التوكل الخالص لا يزيد من رحمة الله (لأن رحمته جوهرية ولا متناهية)، بل يزيل الحجب والعوائق التي كانت تمنع الإنسان من فهم واستيعاب هذه الرحمة. لذلك، مع كل ضعف وعجز نشعر به، بدلاً من اليأس، يجب أن نعتبره فرصة للاقتراب من الله وتجربة أعمق لرحمته وعطفه اللامحدود. هو دائمًا الأرحم، ويداه ممدودتان دائمًا لمساعدة عباده، خاصة أولئك الذين يتوجهون إليه بتواضع واعتراف بضعفهم.
يُروى أن رجلاً ورعاً ناسكاً، سقط في صحراء قاحلة من شدة العطش والإرهاق، عاجزاً عن النهوض. انقطعت كل آماله الدنيوية، ولم يفكر إلا بفضل الله. في ذروة الضعف والعجز تلك، بقلب منكسر وصوت مرتجف، همس قائلاً: «يا رب الأرباب! لا أقدر على الحركة، والعطش قد بلغ مني. ليس لي ملجأ سواك». فجأة، ظهرت سحابة صغيرة فوق رأسه، ونزلت عليه قطرات مطر منعشة، فأحيت روحه. ذرف الدرويش دموع الفرح عند رؤية هذا اللطف المفاجئ، وأدرك أن رحمة الله لا تتجلى في قمم القوة، بل في أعماق الحاجة والضعف، وأن هذا الضعف كان بوابة لرحمة الله اللامحدودة.