بينما الله معنا دائمًا، فإن السعي الواعي لإحساس هذا الحضور ضرورة روحية. هذا الشعور يجلب السلام العميق، ويمنع من المعصية، ويوجه القرارات، ويمثل أحد أسمى مراتب الإيمان.
في مدرسة الإسلام الحية وتعاليم القرآن الكريم الغنية، يُعد مفهوم حضور الله تعالى ومعيته لعباده من أكثر المعتقدات الأساسية والمطمئنة. هذا الاعتقاد متجذر بعمق في آيات قرآنية عديدة، حيث يُعرّف الله نفسه دائمًا بالقرب، وبالعلم، وبالتأنيس مع البشر. لكن السؤال الأساسي هو: هل يجب أن يكون هذا الحضور الإلهي دائمًا 'شعورًا' داخليًا وملموسًا في وجودنا؟ أم أن مجرد المعرفة العقلية والإيمانية تكفي؟ الجواب هو أنه على الرغم من أن الله بذاته، وبعلمه وقدرته اللامحدودة، معنا دائمًا، فإن السعي 'لإحساس' هذا الحضور ليس ضروريًا فحسب، بل هو من أسمى مراتب الإيمان والكمال الروحي الذي يحوّل حياة الإنسان. القرآن الكريم ينص صراحة على أن الله 'أقرب إلينا من حبل الوريد' (ق: 16) و 'هو معكم أينما كنتم' (الحديد: 4). هذه الآيات وما شابهها تؤكد على حضور الله المطلق، الشامل، والدائم في كل لحظة من حياتنا. هذا الحضور لا يشمل فقط حضوره العلمي وعلمه بأفعالنا وأفكارنا، بل يشمل أيضًا حضوره الوجودي؛ أي لا توجد لحظة من الوجود خارجة عن تدبيره وقوته وحضوره. لذلك، من منظور الحقيقة الإلهية، الله معنا دائمًا، سواء شعرنا بذلك أم لم نشعر. هو الشاهد والمراقب على كل ذرة وكل عمل، ولا يخفى شيء عن علمه. وهذا الوعي بحد ذاته عامل رادع عن المعصية ومحفز للخير. ولكن 'إحساس' هذا الحضور هو مرحلة أبعد من مجرد معرفة حقيقة عقلية. هذا الشعور هو نتيجة تربية النفس، والمداومة على الذكر، والتفكر في آيات الله، والأنس بالقرآن والصلاة. عندما يصل الإنسان إلى هذه المرتبة من الوعي والإدراك، حيث يرى الله حاضرًا ومراقبًا له في كل لحظة وفي كل عمل، فإن حياته تكتسب معنى آخر. هذا الشعور بالحضور له فوائد لا حصر لها: أولاً، يولد راحة عميقة وطمأنينة قلبية. ففي مواجهة صعوبات الحياة وتحدياتها، عندما يعلم الإنسان أن الله هو المراقب والمعين، فإنه لا يشعر بالوحدة أو اليأس أبدًا. هذا الشعور يمنحه القوة والثبات، كما يقول الله تعالى: 'ألا بذكر الله تطمئن القلوب' (الرعد: 28). وهذا الذكر ليس مجرد تكرار للكلمات، بل هو حضور قلبي وشعور بالمعية معه. ثانيًا، شعور حضور الله يمنع الإنسان من ارتكاب المعاصي ويدفعه نحو الأعمال الصالحة. فكيف يمكن لمن يعلم أنه دائمًا في حضرة ربه أن يرتكب المعصية بسهولة أو يغفل عن واجباته؟ هذا الشعور يقوي التقوى والخشية من الله في نفس الإنسان. فكما قال الإمام علي (ع): 'من رأى الله حاضرًا وناظرًا ابتعد عن الذنوب.' هذا الشعور يدفع الإنسان نحو مسؤولية أكبر تجاه نفسه، وتجاه الآخرين، وتجاه البيئة، لأنه يعلم أن جميع أعماله مسجلة وسوف يُحاسب عليها يومًا في محضره. ثالثًا، هذا الشعور يكون مرشدًا للإنسان في قراراته اليومية. فعندما يشعر الفرد بأن الله معه، فإنه سيكون معينًا له في اختيار الطريق الصحيح، وسيبتعد عن وساوس الشيطان والأهواء النفسية. هذا الحضور الملموس يمنح الإنسان بصيرة وحكمة لاتخاذ أفضل القرارات في حياته الفردية والاجتماعية. رابعًا، شعور حضور الله يؤدي إلى تعزيز حس الشكر والامتنان في الإنسان. فعندما يدرك الإنسان أن كل نعمة لديه هي من الله، وبحضور وتدبير منه، فإن قلبه يمتلئ بالامتنان. وهذا الامتنان لا يتجلى في الألفاظ فحسب، بل في سلوكه وأفعاله أيضًا، ويحفزه على العبودية الخالصة. لذلك، على الرغم من أن الحقيقة هي أن الله معنا دائمًا، فإن 'السعي الواعي' لإحساس هذا الحضور هو ضرورة روحية وتربوية. يجب أن يتجذر هذا الشعور تدريجيًا في وجود الإنسان من خلال الاستمرار في الأعمال الصالحة، والذكر، والتفكر، والمراقبة. فحياة المؤمن الحقيقي هي حياة تكون فيها المحورية الإلهية ليست مجرد عقيدة، بل تيارًا حيويًا وديناميكيًا في كل لحظة وتفصيل من تفاصيل الحياة. وهذا هو الهدف النهائي للتربية القرآنية، وهو أن يصل الإنسان إلى 'مقام الإحسان'؛ المقام الذي يعبد فيه الله كأنه يراه، وإن لم يكن يراه فإنه يعلم أن الله يراه. وهذا المقام هو قمة الطمأنينة وكمال العبودية الذي يجعل الحياة جنة على الأرض. للوصول إلى هذه المرتبة من الشعور بالحضور، وُردت وسائل عملية في القرآن والسنة. من أهمها 'المراقبة' و 'المحاسبة'. يجب على الإنسان أن يتفكر في أعماله وأفكاره طوال اليوم ويرى ما إذا كان يرى الله حاضرًا ومراقبًا له في كل لحظة أم لا. كذلك، فإن الاستمرار في العبادات، وخاصة الصلاة بحضور قلب، وتلاوة القرآن الكريم وتدبره، من العوامل المهمة لتقوية هذا الشعور. والمشاركة في مجالس الذكر والتفكر في عظمة خلق الله يمكن أن يساعد في هذا الأمر. في النهاية، يجب أن يُعلم أن هذا الشعور هو مسيرة تدريجية ويتطلب الصبر، والمثابرة، والتوكل على الله. وكلما أصبح هذا الشعور أقوى وأكثر استقرارًا، أصبحت حياة الإنسان أغنى وأكثر ثراءً روحيًا، وتحولت إلى مصدر للسلام والرضا.
يُحكى أن رجلاً اسمه فريد ضل طريقه في رحلة طويلة، وتاه في صحراء قاحلة لا ماء فيها، وكان خائفًا من كل جانب. لقد أنهكه الجوع والعطش، واهتز قلبه من الوحدة في تلك الصحراء الشاسعة. في ذروة يأسِه، تذكر قول الشيخ سعدي: 'أينما تكون، فالله حاضر ويراك.' فجأة، هبت نسمة باردة على وجهه، وظهرت سحابة صغيرة في السماء. فريد، الذي كان يفكر في وحدته فقط من قبل، اطمأن قلبه بذكر حضور الرب وبدأ بالدعاء. وبعد قليل، تساقطت قطرات المطر، ووجد الماء من بئر مخفية، واستعاد طريقه. أدرك فريد أنه لم يكن وحيدًا أبدًا وأن حضور الله، كالنور في الظلام، كان مرشدًا له. ومنذ ذلك اليوم، شعر فريد بحضور الله معه في كل حال وكل عمل، وهذا الشعور قاده إلى الكمال والراحة في الحياة.