يعتبر القرآن «الفطرة» طبيعة الإنسان النقية والإلهية المائلة للتوحيد والخير، بينما يمكن لـ «الثقافة» أن تزدهر هذه الفطرة أو تحرفها. مهمة القرآن هي إصلاح الثقافة لتتواءم مع الفطرة، وإرشاد الإنسان نحو الكمال الروحي.
في تعاليم القرآن الكريم العميقة والشاملة، يحتل مفهوم «الفطرة» مكانة أساسية كطبيعة الإنسان الأزلية النقية، بينما تشير «الثقافة» إلى مجموعة العادات والتقاليد والمعتقدات والقيم وأنماط الحياة الاجتماعية التي تشكلت عبر التاريخ وفي المجتمعات المختلفة. العلاقة بين الفطرة والثقافة، من منظور القرآن، هي علاقة ديناميكية ومتبادلة، حيث يمكن للثقافة أن تكون عاملاً في ازدهار الفطرة أو عائقًا أمام انحرافها. يرى القرآن الفطرة كأساس وجوهر خلق الإنسان؛ فطرة تميل بطبيعتها نحو التوحيد والحقيقة والعدل والأخلاق الحسنة. الآية 30 من سورة الروم توضح ذلك صراحة: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾، أي: «فأقم وجهك للدين حنيفًا؛ فطرة الله التي فطر الناس عليها؛ لا تبديل لخلق الله؛ ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون». تشير هذه الآية إلى أن التوحيد والدين الحق متجذران في عمق وجود الإنسان ولا ينفصلان عن خلقه. تعمل الفطرة كبوصلة داخلية توجه الإنسان دائمًا نحو الخير وعبادة الله، ما لم تؤدي العوامل الخارجية إلى انحرافها. من ناحية أخرى، تمثل الثقافة البيئة والوعاء الذي ينمو فيه الإنسان ويتفاعل مع محيطه. يتناول القرآن الكريم الثقافات المختلفة وينتقدها ويصلحها. فكثير من آيات القرآن تنتقد الثقافات الجاهلية والمعتقدات الخرافية والتقليد الأعمى للأسلاف. على سبيل المثال، يذم القرآن بشدة في عدة آيات اتباع العادات والتقاليد الموروثة من الآباء والأجداد إذا كانت تتعارض مع العقل والوحي. ففي سورة البقرة، الآية 170، نقرأ: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾. هذه الآيات تدل على أن الثقافة، وإن كانت قد تتضمن تقاليد قيمة، إلا أنها لا يجب أن تكون حجة لرفض الحق وطريق الهداية الإلهية. هذه هي النقطة التي يتعارض فيها القرآن مع الثقافات المنحرفة ويسعى إلى تطهيرها. يمكن تحليل العلاقة بين الفطرة والثقافة من منظور القرآن في ثلاثة أبعاد رئيسية: أولاً، **دور الثقافة في إزهار الفطرة**. فالثقافة التي بنيت على تعاليم القرآن والمبادئ الإلهية توفر بيئة صحية لنمو وتنمية الفطرة. فالقيم مثل العدل، والإحسان، والصدق، والأمانة، والصبر، والشكر، وحب العلم، والاهتمام بالآخرين، والتي أكد عليها القرآن، كلها تعمل على تغذية وتقوية الفطرة البشرية. في مثل هذه الثقافة، يمكن للأفراد بسهولة الاستجابة لنداء فطرتهم الداخلية والسير على طريق الكمال. فأداء العبادات مثل الصلاة والصيام والحج، وكذلك الاهتمام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كلها مظاهر ثقافية تحافظ على الفطرة البشرية حية وتوجهها نحو الكمال. ثانيًا، **دور الثقافة في حجب وانحراف الفطرة**. في المقابل، تعمل الثقافات التي انحرفت عن الطريق الإلهي، والتي بنيت على الجهل والشرك والظلم والفساد والمادية المحضة وحب الذات، كحجاب وغطاء على الفطرة. هذه الثقافات، من خلال تقديم قيم خاطئة وأنماط حياة غير صحيحة، تخنق صوت الفطرة وتبعد الإنسان عن مساره الحقيقي. على سبيل المثال، الثقافة التي تعبد غير الله بدلاً من التوحيد، أو تروج للظلم بدلاً من العدل، تضعف تدريجياً فطرة الإنسان الميالة إلى الله والعدل، وتجرها نحو الضياع. في مثل هذه الظروف، قد يغفل الإنسان حتى عن أبسط الحقائق، لأن بيئته الثقافية تمنعه من رؤية الحقيقة. ثالثًا، **دور القرآن كعامل إصلاح وتوجيه للثقافة نحو الفطرة**. إن الرسالة الأساسية للقرآن والأنبياء كانت تطهير الثقافات البشرية من انحرافاتها وإعادتها إلى مسارها الفطري. فالقرآن، كمعيار إلهي، يقدم القيم الأصيلة ويدعو الإنسان إلى التفكير والتعقل والاختيار الواعي. هذا الكتاب السماوي، من خلال انتقاد الثقافات الجاهلية وتقديم النماذج السلوكية والأخلاقية الرفيعة، لا يساعد الإنسان على استعادة فطرته فحسب، بل يمكنه أيضًا من بناء ثقافة تتناغم تمامًا مع طبيعته الإلهية. فقد بُعث النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) ليرتقي بالمستوى الثقافي للمجتمع، من الجاهلية إلى الحضارة الإسلامية، ليقدم بذلك نموذجاً عملياً لهذا التناغم للبشرية جمعاء. وفي النهاية، يسعى القرآن إلى إقامة مجتمع يستطيع فيه كل فرد، من خلال الحفاظ على فطرته الإلهية وتنميتها ضمن إطار ثقافي صحي وبناء، أن يقترب من الله ويختبر حياة مليئة بالمعنى والسلام. هذه العلاقة المعقدة والحساسة بين الفطرة والثقافة تدل على أهمية فهم التعاليم القرآنية للعيش في وئام مع الخالق والمخلوق. علاوة على ذلك، يؤكد القرآن على المسؤولية الفردية والجماعية في الحفاظ على الفطرة وتنميتها وإصلاح الثقافة. فكل مؤمن مكلف بمقاومة التأثيرات الثقافية السلبية والاستماع لنداء فطرته. ومن ناحية أخرى، تقع على عاتق المجتمع أيضًا مسؤولية إيجاد ثقافة تساعد على النمو الأخلاقي والروحي للأفراد ومنع انتشار الفساد والأخلاق السيئة من خلال تعزيز القيم القرآنية. وهذان الجانبان، الفردي والاجتماعي، لا ينفصلان، ولتحقيق مجتمع قرآني مثالي، يجب الانتباه إليهما معًا. فالثقافة القرآنية هي ثقافة مبنية على العلم، والحكمة، والعدل، والإحسان؛ ثقافة تحرر الإنسان من عبودية الشهوات والمصالح الدنيوية وتوجهه نحو المعرفة والعبادة الإلهية. وهذا الارتباط بين الفطرة والثقافة هو الذي يشكل الهوية الحقيقية للإنسان في ضوء تعاليم القرآن ويمهّد طريق السعادة الدنيوية والأخروية.
يُروى أن رجلاً أتى ذات يوم، وقلبه مليء بالأسئلة، إلى عالم حكيم من بستان سعدي، وسأله عن طبيعة الإنسان وتربيته. أجاب العالم بابتسامة لطيفة: «يا فتى، اعلم أن الإنسان قد وُهِب فطرة نقية فاضلة، كالبذرة الطيبة التي وُضِعَت في تربة القلب. ولكن هذه البذرة وحدها لا تثمر شجرة مثمرة؛ فهي تحتاج إلى الماء، وإلى النور، وإلى بستاني يرعاها بعناية. ثقافة المجتمع وتربية الأسرة هما الماء والنور والبستاني. فإن زُرعت البذرة الطيبة في أرض مالحة وسُقيت بماء ملوث، حتى لو كان أصلها نقيًا، فإن نموها سيتلف. أما إذا سُقيت بذرة عادية بالعناية والمعرفة، فربما تنتج ثمارًا حلوة. فيا طالب الخير، كلما كانت فطرة الإنسان أنقى، زادت حاجته إلى ثقافة صالحة وتربية قويمة، حتى يظهر جوهر وجوده ويتطهر من غبار الجهل والعادات السيئة. وكما قال سعدي: 'تربية غير المؤهلين كحبة الجوز على القبة.' فزين نفسك بالثقافة القرآنية لتشرق فطرتك الإلهية كالشمس.