القرآن يعتبر اللغة كاملة بطبيعتها، لكنه يشير إلى أن محدودية المعرفة البشرية وعظمة الحقائق الإلهية اللامتناهية تجعلان اللغة، في يد الإنسان، أداة ناقصة لفهم الحقائق المطلقة والتعبير عنها بالكامل. هذا النقص ينبع من محدودية الفهم البشري، وليس من اللغة نفسها.
القرآن الكريم، وهو كلام الله، يُقدم نفسه ككتاب مبين وهادٍ وواضح بذاته. هذا يعني أن لغة القرآن، وهي العربية الفصحى، هي أداة كاملة وغير ناقصة لنقل الرسائل الإلهية والحقائق الجوهرية للوجود. لقد علم الله الإنسان البيان (الرحمن، 55:4)، وهذا بحد ذاته يدل على أنها نعمة ووسيلة فعالة للتفاهم والتعبير. لذلك، لا يشير القرآن بشكل مباشر إلى اللغة في حد ذاتها كأداة ناقصة للمعرفة؛ بل على العكس من ذلك، يستخدمها كوسيلة للتوضيح والإيضاح. ومع ذلك، عندما نتحدث عن اللغة كأداة في يد الإنسان لمعرفة الحقائق الإلهية العظيمة واللانهائية أو للتعبير عن المعرفة البشرية المحدودة، فإن الوضع يصبح مختلفًا بعض الشيء. فالقرآن يشير مرارًا وتكرارًا إلى قيود المعرفة والفهم البشري. هذه القيود، بطبيعة الحال، تؤثر على قدرة الإنسان على استخدام اللغة للتعبير الكامل والشامل عن كل ما يعرفه، أو في محاولته لفهم ما يصله من خلال اللغة. في الحقيقة، النقص ليس من جانب اللغة (كأداة إلهية)، بل من جانب المتلقي والمعالج (أي الإنسان) والنطاق الواسع واللانهائي لموضوع المعرفة (أي العلم الإلهي). من أهم الإشارات القرآنية في هذا الصدد، الآية 85 من سورة الإسراء التي تقول: "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا" (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً). هذه الآية توضح بجلاء أن معرفة الإنسان ضئيلة جدًا. عندما تكون معرفتنا بمثل هذا الأمر الواسع والعميق محدودة، فمن الطبيعي أن تكون أدوات تعبيرنا، بما في ذلك اللغة، غير كافية لفهم أو التعبير عن ذلك الأمر بالكامل. فاللغة، مهما كانت غنية، لا تستطيع أن تعبر بالكامل عن شيء لم يدركه العقل البشري بالكامل. لذلك، فإن النقص في المعرفة ينبع من محدودية المعرفة البشرية، وهذه المحدودية تؤثر على جودة التعبير اللغوي وتجعلها أداة نسبية وناقصة في مواجهة الحقائق المطلقة. كذلك، تصور الآية 109 من سورة الكهف العمق اللانهائي لكلمات وعلم الله: "قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا" (قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددًا). هذه الآية توضح بجلاء أن كلمات الله (التي هي رمز لعلمه وقدرته وإرادته) لا نهاية لها. في مقابل هذا اللانهاية، فإن الأدوات البشرية لتسجيل والتعبير عن هذه الكلمات، بما في ذلك اللغة المكتوبة والمنطوقة، مهما كانت واسعة، فهي محدودة وفانية. هذا عدم التناسب بين اتساع المعرفة الإلهية ومحدودية الوسائل البشرية لفهمها والتعبير عنها، يشير بطريقة ما إلى نقص اللغة كأداة للإحاطة بكمال المعرفة الإلهية. فاللغة يمكنها أن تنقل جزءًا من هذه المعرفة، ولكنها لا يمكن أن تحويها بالكامل أبدًا. بالإضافة إلى ذلك، يتحدث القرآن في الآية 7 من سورة آل عمران عن آيات "محكمات" و"متشابهات". فالآيات المحكمات هي تلك التي لها معنى واضح ومحدد وتشكل أساس الكتاب. أما الآيات المتشابهات، فهي تلك التي لا يعلم معناها الدقيق إلا الله، ويتبعها الذين في قلوبهم زيغ ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها. هذا التصنيف يشير إلى أنه حتى في الكلام الإلهي الذي نزل بلغة عربية فصيحة، تبقى بعض المعاني تتجاوز الإدراك البشري الكامل. هذا ليس بسبب نقص في لغة القرآن، بل بسبب عمق الموضوع وقيود الإدراك البشري. فالأشخاص الذين في قلوبهم مرض قد يستخدمون اللغة كوسيلة لسوء الفهم أو تحريف الحقائق، وهذا يشير مرة أخرى إلى نقص في الاستخدام البشري للغة، وليس نقصًا جوهريًا في اللغة نفسها. في الواقع، هذا يدل على أن اللغة وحدها لا تكفي لفهم بعض الحقائق بشكل كامل، وأنها تحتاج إلى بصيرة وإيمان وهداية إلهية. إذا وقعت هذه الأداة، أي اللغة، في أيدي إنسان ذي نوايا خاطئة أو اقترنت بفهم بشري ناقص، يمكن أن تتحول من وسيلة للمعرفة إلى عائق لها. باختصار، لا يقدم القرآن اللغة كأداة ناقصة بذاتها؛ بل يؤكد على قوتها ووضوحها، خاصة فيما يتعلق بالكلام الإلهي. ومع ذلك، وبشكل ضمني، من خلال التأكيد على قيود المعرفة البشرية ولا محدودية العلم الإلهي، وكذلك الإشارة إلى تعقيد بعض المفاهيم وإساءة استخدام البشر للغة للتضليل، يمكن الاستنتاج أن اللغة، في يد الإنسان ولإدراك والتعبير عن كمال الحقائق المتعالية واللانهائية، هي أداة غير كافية وناقصة نسبيًا. هذا النقص ينبع من القيود المتأصلة في الإنسان في المعرفة والفهم، وليس من اللغة نفسها كبنية إلهية ووسيلة اتصال.
يُروى في بستان سعدي أن عالماً لغوياً وذا علم وفير، كان ذات يوم واقفاً على قمة جبل شاهق يتأمل عظمة الخلق. لقد قضى سنوات عمره في إتقان اللغات والفلسفات والعلوم المتنوعة، وكان يظن أنه يستطيع التعبير عن أي حقيقة بالكلمات. فجأة، هبت نسمة روحانية، وحدث في قلبه حال لم يختبره من قبل. حالة من السكينة المطلقة، والاتصال باللانهائي، وفهم عميق لوحدة الوجود. كلما حاول التعبير عن هذا الشعور الفريد بالكلمات، تعقد لسانه. فاضطر للابتسام وقال لنفسه: "آه، لقد ظننت أن اللغة هي مفتاح كل معرفة، ولكنني أرى الآن أن بعض الحقائق أسمى من أن تستطيع اللغة، مهما كانت جميلة وقوية، التعبير عنها. هنا تصمت اللغة ويأتي القلب بالنور، وتشرق المعرفة الحقيقية أبعد من الكلمات."