يستخدم القرآن السرد القصصي لتيسير فهم الحقائق العميقة، وجعل المفاهيم المعقدة ملموسة، وإثارة المشاعر، وإثبات الأصل الإلهي لرسالته. هذا الأسلوب يعزز سهولة الوصول إلى التعاليم الإلهية وقابليتها للحفظ.
القرآن الكريم، بصفته كلام الله وهدى للبشرية، يستخدم أساليب متنوعة لنقل حقائقه العميقة ورسائله الخالدة. ومن أبرز هذه الأساليب وأكثرها فاعلية هو استخدام القصص والحكايات. هذا النهج لا يزيد من جاذبية الخطاب فحسب، بل يجعل المفاهيم المعقدة أكثر سهولة وواقعية لمجموعة واسعة من الجمهور، من العلماء والمفكرين إلى الناس العاديين. إن اهتمام القرآن الخاص بالقصص له جذور عميقة في معرفة الله لطبيعة الإنسان وكيف يتعلم. فالبشر ينجذبون فطرياً إلى السرد، وعقولهم تعالج المعلومات وتحتفظ بها بشكل أفضل عندما تُقدم في هيئة قصص. أولاً، تتمتع القصص بقدرة لا مثيل لها على نقل المفاهيم المجردة بطريقة ملموسة ومفهومة. فحقائق الوجود، والمعاد، والتوحيد، والنبوة، والأخلاق، هي مفاهيم يصعب أحياناً شرحها باللغة الحجاجية وحدها. ولكن عندما تُقدم هذه الحقائق في شكل قصص الأمم السابقة، أو حياة الأنبياء، أو الأمثال القرآنية، فإن طبيعتها المجردة لا تتضاءل فحسب، بل تتحول إلى تجربة حية ومحسوسة للمستمع. على سبيل المثال، قصة النبي يوسف (عليه السلام)، المعروفة بـ "أحسن القصص"، ليست مجرد رواية تاريخية؛ بل تحمل دروساً عميقة في الصبر، والتوكل، والخيانة، والمغفرة، والتدبير، وعظمة الله. يتعاطف القارئ مع مصير يوسف، ويشاركه أفراحه وأحزانه، ويستوعب هذه المفاهيم القيمة لا إرادياً في أعماقه. ثانياً، تلعب القصص دوراً هاماً في إيقاظ الفطرة وتحريك المشاعر الإنسانية. فالقرآن لا يهدف فقط إلى نقل المعلومات إلى العقل؛ بل هدفه تغيير المنظور، وتصحيح السلوك، وتطهير الروح. فعندما تُروى قصص عن العذاب الإلهي للظالمين أو مكافآت الجنة للمحسنين، لا يتأثر العقل فحسب، بل يتأثر القلب والضمير أيضاً. فالمستمع، بمشاهدة مصير الأمم التي عصت الأوامر الإلهية (مثل قوم عاد وثمود)، يعتبر ويتعظ ويُحذر من مصير مماثل. وبالمثل، عند سماع قصص الأنبياء وثباتهم في طريق الحق، تتقوى آماله وإيمانه، ويُشجع على الاقتداء بهم. هذا التأثير العاطفي والنفسي يحوّل القصص إلى أداة قوية للإرشاد والتربية. ثالثاً، تعمل القصص كأدلة حية وقوية على صدق الأنبياء والتعاليم الإلهية. فالقرآن، بتقديم تفاصيل دقيقة ومدهشة من حياة الأنبياء الذين عاشوا قبل قرون والأحداث التي وقعت لهم، يؤكد على المصدر الإلهي لكلامه. كيف يمكن للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، الذي كان أمياً، أن يروي مثل هذه القصص الدقيقة من العصور القديمة؟ هذا بحد ذاته معجزة ودليل على أن مصدر هذه المعلومات ليس سوى الوحي الإلهي. هذا الجانب من القصص يعزز المؤمنين في قناعاتهم ويوفر حجة واضحة ودليلاً لا يقبل الجدل للمشككين والمنكرين. رابعاً، تساعد القصص والأمثال القرآنية في فهم أعمق للسنن الإلهية في الكون. فالقرآن يشير مراراً إلى سنن مثل نصر المؤمنين، وهلاك الظالمين، والابتلاء الإلهي. تُصور هذه السنن في شكل قصص واقعية لتوضيح أن القوانين الإلهية ثابتة لا تتغير، وأن لكل فعل في هذا العالم انعكاساً في الآخرة. قصة موسى وفرعون هي مثال واضح لانتصار الحق على الباطل وهلاك الظالمين، وقد تكررت عدة مرات بزوايا مختلفة في القرآن لتثبيت هذه الحقيقة بأفضل شكل في الأذهان. كما أن الأمثال، مثل قصة صاحبي الجنتين في سورة الكهف أو قصة الرجل الذي أفسد بستانه، تنقل رسائل أخلاقية وروحية في قالب بسيط ومفهوم للمتلقي، مما يضمن بقاءها في الذهن لفترة طويلة. ختاماً، يعكس استخدام القصص في القرآن حكمة الله البالغة، الذي أنزل كلامه بطريقة تكون قابلة للاستخدام والفهم لجميع العصور ولجميع الناس. فالقصص تتجاوز حدود الزمان والمكان وتنقل رسائل خالدة هي بمثابة دليل ومصدر إلهام لكل إنسان في أي موقف. هذا الأسلوب يرفع القرآن عن كونه مجرد نص قانوني جاف ويحوله إلى كتاب حيوي وديناميكي وملهم دائمًا، يتحدث إلى روح الإنسان وقلبه، ويهديه نحو الحقيقة المطلقة.
يُروى أن رجلاً أتى يوماً إلى حكيم فقال: «يا حكيم، سنوات طويلة وأنا أبحث عن حقائق الوجود، ولكن مهما قرأت من كتب وناقشت، يبدو أن روحي لا تفهمها.» ابتسم الحكيم وقال: «يا صديقي، إذا صببت الماء في أكواب جافة، فلن يصل أبداً إلى عمقها، ولكن إذا أطلقته في جدول جارٍ، فسوف يتدفق بنفسه ويروي عطش العطاشى.» ثم روى الحكيم قصة راعٍ بسيط وذئب ماكر، وكيف أن الراعي بحكمته أبعد الذئب عن قطيعه. عندما انتهت القصة، قال الرجل بعينين واسعتين: «فهمت! فهمت أن الحقيقة لا تستقر في الروح بالمجرد من الجدال، بل يجب أن تدخل القلب في قالب الحياة والتجربة، كقصة حلوة، حتى تدركها الروح.» أجاب الحكيم: «نعم، لقد أصبت! فالقصة هي مرآة القلب، تراها فيها الحقائق بوضوح.»