القرآن، بصفته كلام الله، يعبر عن الحقائق الإلهية المطلقة بوضوح عبر لغته العربية الفصيحة والمعجزة. العلاقة بين اللغة والحقيقة في القرآن تقوم على أساس أن لغة الوحي نفسها هي وسيلة لا مثيل لها لفهم أعمق الحقائق الوجودية والإلهية.
في القرآن الكريم، تُعتبر العلاقة بين اللغة والحقيقة علاقة جوهرية وعميقة، تم التأكيد عليها منذ بداية الوحي. يُقدّم القرآن نفسه على أنه «كلام الله»؛ أي الخطاب المباشر وغير الوسيط من الله، الذي نزل به جبريل على قلب النبي محمد (صلى الله عليه وسلم). هذه الطبيعة الإلهية تميز لغة القرآن عن أي كلام بشري، وتمنحها قدسية وسلطة لا مثيل لها. الحقيقة في القرآن ليست مجرد مفهوم مجرد أو فلسفي بحت، بل هي حقيقة مطلقة، إلهية، ووجودية، متجذرة في ذات الله، «الحق المطلق». وتعمل لغة القرآن كوسيلة لنقل هذه الحقيقة السامية إلى البشرية. من أبرز سمات لغة القرآن وضوحها وصراحتها. فقد وصف القرآن نفسه مرارًا بأنه «مبين» (واضح وموضح) و«كتاب هدى». وهذا الوضوح يضمن وصول رسالة الحقيقة إلى المتلقي دون غموض أو تحريف. كما أن اختيار اللغة العربية لنزول القرآن يمثل نقطة محورية في هذه العلاقة. فقد ذكر الله في آيات متعددة أنه أنزل القرآن بلسان عربي مبين ليفهمه الناس ويتدبروا فيه. إن الفصاحة والبلاغة الفريدة للغة العربية في القرآن ليست مجرد جماليات أدبية؛ بل هي في حد ذاتها دليل على إعجازه وأصله الإلهي. هذا الإعجاز اللغوي (الإعجاز البلاغي) عجزت البشرية عن الإتيان بمثله، وهو برهان قاطع على ألوهيته وكونه حقًا محضًا. لغة القرآن تعبر عن حقائق الوجود، والمبدأ والمعاد، ومنهج الحياة الصالحة بدقة وبراعة لا مثيل لهما. فلكل كلمة وتعبير في القرآن معناه الخاص، وهذا الدقة اللغوية تمنع الانحراف في فهم الحقيقة. يشير القرآن إلى نوعين من الآيات: «المحكمات» و«المتشابهات». الآيات المحكمات هي تلك التي معناها واضح وجلي، وتشكل أساس الكتاب ومبنى فهم الحقيقة. هذه الآيات تعبر عن الحقائق الأساسية للدين والشريعة بوضوح لا لبس فيه. في المقابل، الآيات المتشابهات هي تلك التي قد يبدو معناها معقدًا أو متعدد الأوجه للوهلة الأولى. وغالبًا ما تشير هذه الآيات إلى حقائق غيبية، أو صفات إلهية، أو قضايا معقدة قد يكون فهمها الكامل صعبًا على العقل البشري. ومع ذلك، فإن وجود الآيات المتشابهات لا يعني عدم وضوح الحقيقة؛ بل هي بمثابة اختبار إلهي للمؤمنين ودليل على محدودية إدراك البشر للحقائق الإلهية اللامتناهية. وفي الواقع، يتطلب الفهم الكامل للحقيقة في هذه الآيات الرجوع إلى الآيات المحكمات وإلى التأويل الصحيح، الذي لا يمتلكه إلا الراسخون في العلم. هذا التركيب اللغوي يكشف عن عمق طبقات الحقيقة في القرآن، ويعلم الإنسان أن في بعض الأمور، يجب التسليم للعلم الإلهي المطلق. اللغة في القرآن ليست مجرد أداة لنقل المعلومات؛ بل هي في حد ذاتها وسيلة للإصلاح، وإيقاظ الفطرة، وإحداث التحول في الإنسان. فالكلمات، والتراكيب، وحتى نغمة وإيقاع القرآن، مصممة للتأثير في الروح والقلب، وتوجيه السامع نحو الحقيقة. لغة القرآن لا تعبر عن حقائق نظرية فحسب، بل تتناول أيضًا الحقائق العملية والأخلاقية، وتوضح الطريق إلى السعادة الحقيقية. وقد صيغت الأوامر الأخلاقية والأحكام الشرعية في القرآن بلغة واضحة وآمرة حتى لا يكون هناك أي غموض في سبيل العمل بالحقيقة. لذا، فإن العلاقة بين اللغة والحقيقة في القرآن هي علاقة ضرورية لا تنفصل. فاللغة هي الوعاء الذي صُبّت فيه الحقيقة الإلهية، وجعلتها متاحة للفهم البشري. وأي محاولة لفصل اللغة عن الحقيقة في القرآن تؤدي إلى التحريف وسوء الفهم. فالقرآن، بلغته الفريدة، هو دليل لفهم أعمق الحقائق الوجودية والإلهية، وهي حقيقة تجلّت في جسد الكلمات العربية، ودعوة إلى الطريق المستقيم والواضح من الله. هذه اللغة ليست مجرد حاملة للرسالة، بل هي في حد ذاتها معجزة ناطقة وبرهان ساطع على صدقها وحقيقتها الإلهية.
يُروى أن الملك أنوشيروان العادل، الذي اشتهر بعدله وحكمته، طلب المشورة ذات يوم. وقف أمامه مستشاران. الأول كان عالمًا في البلاغة المعقدة، يتحدث باستعارات متقنة وتلميحات مبطنة، كلامه جميل ولكنه غالبًا ما كان محيرًا. الثاني كان شيخًا عجوزًا صريحًا، يتحدث بوضوح ومباشرة، مقدّرًا للوضوح أكثر من الزخرفة في التعبير. استمع الملك بصبر لكليهما. بعد لحظة، التفت أنوشيروان إلى الشيخ وقال: «كلامك، وإن كان بسيطًا، فإنه يخترق القلب كالسهم المصيب، لا يترك مجالًا للشك. أما كلمات العالم البليغ، فمع جاذبيتها، تشبه خيطًا متشابكًا، يتطلب جهدًا كبيرًا لفك تشابكه.» انحنى الشيخ وأجاب: «يا أيها الملك، الحقيقة، مثل الذهب الخالص، لا تحتاج إلى غلاف مزخرف لإثبات قيمتها. بريقها يسطع بوضوحها الخاص.» هذه الحكاية من السعدي تذكّرنا أن الحكمة الحقيقية، كالوحي الإلهي، غالبًا ما تكمن في الوضوح والمباشرة، مما يسمح للحقيقة بالتردد دون عائق من أي زخرفة لا داعي لها.