نعم، لله علم وإحاطة كاملة بجميع قرارات حياتنا، وقد قدم لنا هدايات عامة من خلال الدين والعقل. ولكن هذا العلم والإرشاد لا يسلب حرية اختيار الإنسان ومسؤوليته عن قراراته.
السؤال "هل لله رأي في جميع قرارات حياتي؟" هو أحد أعمق وأساسي التساؤلات في الرؤية التوحيدية والمعتقدات الإسلامية. إنه يتناول العلاقة المعقدة بين الإنسان وخالقه، ومفهوم الإرادة الإلهية، وحرية الاختيار البشري. باختصار، نعم، الله (سبحانه وتعالى) يمتلك علمًا كاملاً وإحاطة تامة بكل ما يجري في الوجود، بما في ذلك جميع قراراتنا، حتى أصغرها. ومع ذلك، فإن هذا العلم الإلهي وهذه الإحاطة لا ينفيان حرية الاختيار الإنسانية ولا يعنيان قدرًا جبريًا لكل تفصيل من تفاصيل الحياة. لفهم هذا الموضوع بشكل أفضل، نحتاج إلى التركيز على عدة جوانب رئيسية من التعاليم القرآنية والإسلامية: **1. علم الله المطلق (علم الغيب والشهادة):** يؤكد القرآن الكريم بشكل لا لبس فيه على علم الله الشامل واللانهائي. لا شيء في السماوات والأرض، سواء كان ظاهرًا أو خفيًا، يخفى عن علمه. إن الله يعلم كل فكرة تدور في عقل الإنسان، وكل نية تتشكل في قلبه، وكل عمل يقوم به. حتى أصغر الجزيئات والأحداث في الكون لا تخفى عن بصره. سورة الأنعام، الآية 59، تصور هذا العلم المطلق بشكل جميل: «وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ» (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين). هذه الآية تبين أن علم الله عظيم لدرجة أنه يعلم حتى سقوط ورقة شجر، فكيف يمكن أن تخفى عنه قرارات حياة الإنسان، سواء كانت كبيرة أو صغيرة؟ هذا العلم هو أساس "رأي" الله في جميع قراراتنا، ولكنه ليس إملاءً لها. فالله مطلع على جميع الخيارات ونتائجها المحتملة، حتى قبل أن نتخذها، ولكن هذا العلم المسبق لا يلغي حريتنا في الاختيار. **2. حرية الاختيار والإرادة البشرية (الاختيار):** بالتوازي مع علم الله المطلق، يؤكد القرآن مرارًا وتكرارًا على حرية اختيار الإنسان وإرادته. الإنسان كائن مُنح القدرة على الاختيار بين الخير والشر، والحق والباطل، والمسارات المختلفة في الحياة. هذه الحرية في الاختيار هي التي تجعل الإنسان مسؤولاً عن أفعاله وتشكل أساس الثواب والعقاب في الآخرة. لو لم يكن الإنسان حرًا في اختياره، لما كان للعدل الإلهي في الثواب والعقاب معنى. لقد بيّن الله طريق الهداية ووضح طريق الضلالة، والإنسان هو الذي يختار أيهما يسلك. تقول سورة الكهف، الآية 29، صراحة: «وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). هذه الآية تبين بوضوح أن في مسألة بهذه الأهمية كالإيمان والكفر، يقع الاختيار على عاتق الفرد. وتمتد هذه الحرية في الاختيار إلى قرارات الحياة اليومية أيضًا. فالله لا يجبرنا على فعل أي شيء، بل ينير لنا الدروب ويمنحنا القدرة على التمييز والاختيار. هذه القدرة على الاختيار تضع عبء المسؤولية على عاتق البشر، مما يدفعهم نحو التفكير الواعي والعمل المدروس. **3. الهداية الإلهية والأطر العامة:** "رأي" الله في قرارات حياتنا يتجلى بشكل أكبر في شكل توجيهات عامة، ومبادئ أخلاقية، وتشريعات دينية، بدلًا من التدخل الجزئي في كل خيار. من خلال كتبه السماوية ورسله، أرانا الله طريق الحق والباطل. لقد حدد الحلال والحرام، وقدم الفضائل والرذائل، ووضع أطرًا لحياة مزدهرة تتوافق مع الفطرة الإلهية. على سبيل المثال، أمر الله بالصدق والأمانة، والإحسان إلى الوالدين، والاجتناب عن الظلم والكذب. هذه هي "آراء" الله العامة التي يجب أن تكون أساس جميع قراراتنا. عندما نكون مترددين بين مسارين أو قرارين، فإن "رأي" الله هو أي منهما أقرب إلى العدل والتقوى ورضاه. تتخذ هذه الخيارات بالاعتماد على العقل، وبالتشاور مع الحكماء، وفي النهاية، بالتوكل على الله. وهكذا، بدلاً من إملاء كل تحركاتنا، قدم الله نظامًا من المبادئ والقيم لمساعدتنا على المسار الصحيح. **4. التوكل على الله وقبول القدر:** بعد أن يتخذ الإنسان قراراً بإرادته الحرة ويبذل كل الجهود اللازمة، تأتي مرحلة التوكل على الله. هذا يعني أن المرء يفوض نتائج أعماله لله، عالماً بأن الله سيدبر له الأفضل، حتى لو لم تكن النتيجة الظاهرة هي ما يتمناه. تقول سورة الطلاق، الآية 3: «وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا» (ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا). هذه الآية تشير إلى أن التوكل لا يعني التخلي عن المسؤولية أو التوقف عن بذل الجهد؛ بل يعني الإيمان بقدرة الله وحكمته بعد أداء الواجب. هذا الفهم يمنح الطمأنينة لقلب الإنسان ويحرره من القلق غير المبرر، لأنه يعلم أن كل ما يحدث يقع ضمن نطاق علم الله وإرادته الكلية. **5. القضاء والقدر الإلهي:** مفهوم القضاء والقدر الإلهي له أهمية أيضًا هنا. يشير القضاء والقدر إلى خطة الله الشاملة للوجود وعلمه بجميع التفاصيل والنتائج. هذا لا يعني أن الله يجبرنا بطريقة حتمية، بل يعني أنه منذ بداية الخلق، بعلمه المطلق، قد عرف جميع الاحتمالات ونتائج أعمالنا وقراراتنا، وقد سجلها في اللوح المحفوظ. ضمن إطار هذا القضاء والقدر العام، يمتلك البشر حرية الاختيار. نحن نختار المسار، والله يعلم نتيجة هذا الاختيار. في جوهر الأمر، كل خيار نتخذه يقع ضمن نطاق علمه وإرادته الكلية. قد يبدو هذان المفهومان (حرية الاختيار والقضاء والقدر) متناقضين، ولكنهما في الواقع متكاملان، ويعبران عن حكمة الله وعدله اللامحدود. فالله يعلم ما سنختار، ولكن علمه هذا لا يجبرنا على ذلك الاختيار. **الخلاصة:** إذن، الإجابة على هذا السؤال هي "نعم" مشروطة. نعم، لله "رأي" في جميع قرارات حياتنا، ولكن هذا "الرأي" يعني علمه المطلق بجميع قراراتنا، وتوجيهاته العامة من خلال الدين، ووضع الأطر الأخلاقية والشرعية لنا. هو لا يجبرنا على أي عمل؛ بل بمنحنا العقل والأنبياء والكتب السماوية، أنار لنا الطريق لاتخاذ أفضل القرارات. تقع مسؤولية الاختيار النهائي علينا، ولكن هذه الخيارات يجب أن تتم بما يتماشى مع رضا الله، والمبادئ الأخلاقية، وبالتوكل عليه. الحياة الإيمانية تعني السعي المستمر لمواءمة قراراتنا مع "رأي" الله العام كما يتجلى في تعاليمه الدينية، وبعد بذل الجهد والتدبير، تفويض النتائج إليه. هذا المنظور لا يعفينا من المسؤولية، بل يضع عبء الاختيارات الواعية على الإنسان، مما يقوده نحو النمو والكمال، ويؤكد له أن الله مطلع وواعٍ في كل خطوة.
يُروى أن عارفا سُئل: "كيف يحدث أن قلب الإنسان يبقى حائرا ومحتارا في القرارات اليومية أحيانا؟" فابتسم العارف وقال: "ذات يوم، رأيت شابا يقف عند مفترق طرق. طريق يؤدي إلى مدينة مزدهرة وآخر إلى صحراء قاحلة. قال الشاب: 'لا أعلم أيهما أختار؟ كيف لي أن أعرف رضا الله في أي منهما؟' فمر به شيخ وقال: 'يا شاب، لقد أرسل الله المرشدين ومنحك العقل. وأراك الوجهة النهائية وهي الفلاح. الآن، أي الطريقين يوصلك إلى هذا الفلاح ورضا أكثر؟ الطريق الذي فيه يُشبع جائع، ويُعان مظلوم، ويزداد العلم والحكمة، أم الطريق الذي يجلب لك منفعة شخصية فقط ويضر بالآخرين؟ أي قرار تتخذه، فإن الله عليم وبصير، ولكنه خلقك مختارًا لكي تجد طريق الحق بعقلك وقلبك. فتفكر جيدا وسلم قلبك له، فإن من يطلب يجد الإرشاد من الداخل والخارج.'" فكر الشاب واختار طريق الازدهار والخدمة، وسكن قلبه لأنه سار على طريق رضا الله.