الله ينظر إلى النية (الدافع الداخلي) ونتيجة العمل (الفعل الخارجي)، لكن النية الصادقة هي الأساس الذي يحدد قيمة العمل. فالنية والعمل الصالح كلاهما ضروريان للفلاح ولا ينفصلان.
في القرآن الكريم، تعتبر مسألة النية ونتائج العمل من المفاهيم العميقة والأساسية التي تحدد علاقة الإنسان بخالقه. والإجابة على السؤال عما إذا كان الله ينظر إلى النية أم إلى نتيجة العمل، تتطلب فهمًا شاملاً للتعاليم القرآنية التي تؤكد في الواقع على أهمية كليهما، ولكن مع تسلسل هرمي خاص وعلاقة لا تنفصم بينهما. فالله سبحانه وتعالى يعلم ما تخفيه الصدور وما يظهر من أعمال عباده، ويحاسبهم على أساس كليهما. هذه النظرة الشاملة تدل على عدالة وحكمة الله المطلقة، فهو لا ينظر إلى الظواهر فحسب، بل إلى عمق الوجود ودوافع الإنسان الداخلية أيضًا. يؤكد القرآن بوضوح على علم الله المطلق بالنوايا وأعماق البشر. فآيات مثل: ﴿قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (آل عمران، الآية 29) تنص صراحة على أن كل ما تخفونه في صدوركم أو تبدونه، فإن الله يعلمه. هذه الآية تبين أن النوايا والأفكار الداخلية، حتى قبل أن تتحول إلى أفعال، معلومة وظاهرة عند الله. فالله لا يراقب أعمالنا الظاهرة فحسب، بل يدقق أيضًا في الدوافع وصدق النوايا الكامنة وراء هذه الأعمال. هذا العلم الإلهي المطلق هو حجر الزاوية لمفهوم الإخلاص؛ بمعنى أن كل عمل يجب أن يؤدى فقط ابتغاء مرضاة الله، دون أي شائبة من الرياء أو التظاهر أو طلب منفعة دنيوية. فالإخلاص في النية هو روح العمل وجوهره، وبدونه، فإن العمل مهما كان عظيمًا ومثيرًا للإعجاب، سيكون عديم القيمة عند الله. على سبيل المثال، الصدقة التي تُعطى للرياء، وإن كانت ظاهريًا مساعدة للمحتاج، إلا أنها لا تحمل قيمة روحية أو أجرًا إلهيًا، لأن النية وراءها كانت فاسدة. فالله يطلب نقاء القلب وصدق السريرة، لأن هذا النقاء هو الذي يرفع العمل من مجرد قشر إلى لب، ويجعله مقبولاً في حضرة الله. في الحقيقة، النية مثل الأساس الذي يُبنى عليه العمل؛ فإذا كان الأساس ضعيفًا، فلن يثبت البناء. فالقرآن الكريم يحث المؤمنين باستمرار على التفكر في دوافعهم وتطهير نياتهم، لأن هذا الإخلاص هو الذي يصنع الفرق بين العمل العادي والعبادة المقبولة. والعمل الذي ينبع من قلب نقي وبهدف سامي، حتى لو بدا صغيراً، فإنه يحظى بقيمة لا حصر لها في الميزان الإلهي. من ناحية أخرى، يؤكد القرآن بنفس القدر على أهمية العمل. فالإيمان والاعتقاد لا يقتصران على النوايا الداخلية فحسب، بل يجب أن يظهرا في شكل أعمال صالحة. ففي العديد من الآيات، يأتي الإيمان مقترنًا بالعمل الصالح، مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا﴾ (الكهف، الآية 107). هذا الاقتران يدل على أن الإيمان بدون عمل هو إيمان ناقص، والعمل بدون إيمان هو بلا جذور. فأعمال الإنسان هي انعكاس لمعتقداته وقيمه الداخلية. والله يحاسب الناس على ما يفعلونه، ويكافئ أو يعاقبهم بناءً على ذلك. فالآية الشهيرة ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ (الزلزلة، الآيتان 7-8) تنص صراحة على أن أصغر عمل خير وشر سيُرى ويُحاسب عليه. هذه الآيات تبين بوضوح مسؤولية الإنسان تجاه أعماله. فنتيجة العمل، سواء في الدنيا أو في الآخرة، تؤثر مباشرة على مصير الفرد. وأداء الواجبات الدينية، والإحسان إلى الخلق، والامتناع عن الذنوب، والسعي في سبيل الله، كلها أمثلة على الأعمال الصالحة التي وعد الله عليها بأجور عظيمة. فالعمل هو التجلّي الخارجي للنية، وبدونه لا تستطيع النية وحدها أن تظهر كامل إمكاناتها للتغيير والتأثير. على سبيل المثال، نية مساعدة المحتاج لا تكتمل إلا إذا صاحبتها خطوة عملية، وظهرت ثمرتها في الواقع. لذا، فإن العمل الصالح ليس فقط دليلاً على الإيمان، بل هو أداة لتحقيق الأهداف الإلهية على الأرض وتحسين أوضاع المجتمعات البشرية. لذلك، يمكن القول إن النظرة القرآنية هي نظرة شاملة ومتكاملة للنية والعمل. فالنية هي الأساس والمحدد لقيمة العمل، والعمل هو تجلي وتحقيق للنية. فالعمل الذي يؤدى بنية خالصة، حتى لو لم يحقق نتيجة مادية أو دنيوية كبيرة، فإنه قيم عند الله. على سبيل المثال، من ينوي مساعدة محتاج ويبذل جهده، حتى لو لم يتمكن لأسباب خارجة عن سيطرته من تقديم المساعدة، فإن نيته الطيبة محفوظة عند الله وينال عليها الأجر، كما أشارت إليه العديد من الآيات في هذا الشأن حول رحمة الله وعلمه. في المقابل، العمل الذي يبدو خيرًا ظاهريًا، ولكنه يخفي نية غير نقية (مثل مساعدة الآخرين لكسب الشهرة)، فإنه يفقد قيمته الروحية، لأن الله ينظر إلى ما في القلوب أكثر من الظواهر. من ناحية أخرى، مجرد النية الطيبة بدون السعي للقيام بالعمل، لا يكفي في الغالب. فالله يتوقع من عباده، بجانب النوايا الطاهرة، أن يسعوا للقيام بالأعمال الصالحة. فهذا السعي والاجتهاد هو الذي يحول الإيمان من مجرد اعتقاد ذهني إلى حقيقة ملموسة. فالغرض من خلق الإنسان هو امتحانه واختباره ليتضح من هو أحسن عملاً. وهذا "أحسن عملاً" يشمل كلًا من النية الخالصة والتنفيذ الصحيح والجيد. فالقرآن يذكر مرارًا الأجور العظيمة لمن "يعملون الصالحات"، مما يدل على أن مجرد النية لا تكفي، بل يجب أن تبلغ مرحلة العمل. وهذا المزيج من النية والعمل هو الذي يقود الإنسان إلى الفلاح ورضا الله. الخلاصة هي أن الله ينظر إلى *كليهما*، النية ونتيجة العمل، لكن النية هي الأساس. فالنية الصافية تجعل العمل الذي يبدو صغيرًا، كبيرًا، والنية الفاسدة تجعل العمل الذي يبدو كبيرًا، بلا قيمة. فالنية تحدد مسار العمل، والعمل هو تجلي هذه النية. وكمال العبودية يكمن في الجمع بين النية الخالصة والعمل الصالح، فكلاهما لا ينفصلان عن بعضهما البعض ويحظيان بنظر ومحاسبة الله. هذه النظرة الشاملة تدل على عدالة وحكمة الله المطلقة، فهو لا ينظر إلى الظواهر فحسب، بل إلى عمق الوجود ودوافع الإنسان الداخلية أيضًا. لذلك يجب على كل مؤمن أن يسعى جاهدًا لتطهير قلبه من كل شائبة ونية سوى رضا الحق، وأن يبذل قصارى جهده في أداء الأعمال بالدقة والإخلاص الكاملين ليحقق الفلاح في الدنيا والآخرة. وفي النهاية، فإن الميزان الإلهي يقوم بتقييم دقيق ومرهف لداخل الإنسان وخارجه لتحديد المكافآت والعقوبات العادلة تمامًا.
كان هناك درويش يذهب إلى المسجد كل يوم ويكثر من العبادة، ولكنه كان يحمل في قلبه حسدًا لتاجر ثري في المدينة. من ناحية أخرى، التاجر، على الرغم من أنه كان يتردد على المسجد بشكل أقل ولا يؤدي عبادات متكلفة، فإنه كلما رأى فقيرًا أو محتاجًا، كان يساعده بنية خالصة ودون أي توقع للمقابل. ذات يوم، مرض الدرويش ورأى في المنام ملاكًا يقول له: "لقد قبلنا عباداتك، ولكن الأجر الذي ناله التاجر بسبب نيته الصافية في مساعدة الناس هو أضعاف عباداتك. إن الله ينظر إلى القلوب النقية، وليس فقط إلى ظاهر العمل." استيقظ الدرويش نادمًا وقرر أنه من الآن فصاعدًا سيمارس العبادة وتقديم المساعدة للآخرين بنية صادقة.