القرآن لا يرفض الشك المنطقي، بل يدعو بقوة إلى التفكير والتعقل والبحث، ويمدح الإيمان القائم على البصيرة. هذا النهج يحول الشك إلى جسر للوصول إلى اليقين وتعميق الإيمان، شريطة أن تكون نيته الوصول إلى الحقيقة وليس مجرد الإنكار.
القرآن الكريم، كتاب الهداية الإلهية للبشرية، لا يتنافى مع الشك المنطقي فحسب، بل يدعو الإنسان في العديد من آياته إلى التفكير والتعقل والتدبر والبحث، ويحذره من القبول الأعمى والتقليد الجاهل. هذا النهج القرآني يفسح المجال لنوع من الشك البناء والحيوي الذي يهدف إلى الوصول إلى اليقين والإيمان القائم على الدليل، لا إلى الغوص في هوة الشك العقيم أو الإنكار العنيد. في المنظور القرآني، يحتل العقل والفكر مكانة خاصة. فالله سبحانه وتعالى يكرر في آياته، بعد ذكر علامات قدرته وحكمته في الخلق (مثل السماوات والأرض، نزول المطر، نمو النباتات، تعاقب الليل والنهار)، عبارات مثل: «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» (لِقوم يعقلون)، «لِأُولِي الْأَلْبَابِ» (لأولي الألباب)، «لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» (لآيات لقوم يتفكرون)، و«أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ» (أفلا يتدبرون القرآن؟). هذه الدعوات المتكررة للتفكير تدل على أن الإيمان المرغوب في الإسلام هو إيمان مبني على البصيرة والمعرفة، وليس إيماناً تشكل نتيجة الجهل أو الضغط الخارجي. هذا النوع من التفكير والتدبر هو في جوهره شك بناء يسعى، من خلال طرح الأسئلة الأساسية والعميقة، إلى كشف الحقيقة والوصول إلى إجابات مقنعة. يحارب القرآن بشدة التقليد الأعمى للأسلاف أو القبول غير النقدي للمعتقدات السائدة. في آيات مثل الآية 170 من سورة البقرة، عندما يُسأل الكفار لماذا لا يتبعون ما أنزل الله، يجيبون: «بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا». القرآن يذم هذا النوع من التقليد ويتساءل: «أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ؟» هذه الآية توضح بجلاء أن حتى الموروثات الثقافية والدينية من الماضي يجب أن تخضع للمراجعة والتقييم العقلي. هذا هو جوهر الشك المنطقي الذي يطلب من الفرد أن يختبر كل اعتقاد، مهما كان تقليدياً أو راسخاً، بمعيار العقل والبرهان، ولا يقبله لمجرد قدمه أو انتشاره. ويقدم القرآن ظواهر الكون على أنها «آيات» أو «علامات»؛ علامات تدل بذاتها على وجود الخالق ووحدانيته وقدرته. إن الدعوة إلى ملاحظة هذه العلامات والتأمل فيها تقدم منهجية تجريبية وعقلية. فعندما يقول الله تعالى: «وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ» (وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون؟ - سورة الذاريات، الآيات 20-21)، فإن هذه دعوة إلى فحص دقيق ونقدي. هذه الفحوصات قد تبدأ في البداية بالشك والتساؤل، ولكن هدفها النهائي هو الوصول إلى اليقين والبصيرة. الفرق الأساسي بين الشك المنطقي الذي يؤيده القرآن والشك العدمي أو الهدام يكمن في هدفه ونيته. الشك المنطقي الذي يقدره القرآن هو شك يسعى إلى الوصول إلى الحقيقة وتعميق الإيمان. هذا الشك يشبه شك إبراهيم عليه السلام حول كيفية إحياء الموتى، والذي تحول إلى يقين بعد رؤية الإجابة الإلهية (سورة البقرة، الآية 260). مثل هذا الشك هو المحرك للبحث وطلب العلم. أما الشك السلبي والمرضي، فهو شك ينشأ من الكبر، العناد، أو التهرب من المسؤولية، وبدلاً من أن يقود إلى الحقيقة، يغرق الإنسان في الضلال والإنكار. في الختام، يمكن القول إن القرآن يوفر مساحة واسعة للتساؤل والتفكير النقدي والشك البناء. فالإيمان في القرآن هو اختيار واعٍ ومنطقي ينتج بعد التدبر في الآيات الإلهية والتفكير في الحقائق الوجودية. هذا الكتاب السماوي، بدلاً من فرض الإيمان، يدعو الإنسان إلى رحلة فكرية يتآزر فيها العقل والقلب للوصول إلى اليقين والسكينة في طريق الهداية الإلهية. لذلك، فإن الشك المنطقي، إذا كان بقصد الوصول إلى الحقيقة والبصيرة، ليس مذموماً فحسب، بل هو طريق لتقوية وتعميق الإيمان والمعرفة الإلهية؛ طريق يقود إليه القرآن نفسه.
يُحكى أنه في قديم الزمان، كان هناك رجل يُدعى حكيم، يسعى دائماً للمعرفة والحقيقة. ذات يوم، سمع معلماً حكيماً يقول: «الإيمان الحقيقي ليس أن تقبل بعينين مغلقتين، بل أن تنظر بعينين مفتوحتين وترى». تأمل حكيم هذه الكلمات بعمق، وهو الذي كان يقبل كل ما سمعه من أسلافه دون سؤال. بدأ يدرس الكتب، يراقب الطبيعة، ويسأل أهل العلم. في البداية، جلبت له هذه التساؤلات نوعاً من الحيرة، ولكن كلما بحث أكثر، قلت غموضه، وأصبحت الحقائق أكثر وضوحاً له. بدلاً من أن يغرق في الشك، بنى حكيم منه جسراً للوصول إلى اليقين. فهم أن العقل هبة إلهية للوصول إلى المعرفة، وأن الشك المنطقي هو مفتاح لفتح أبواب الحكمة. وفي النهاية، لم يضعف إيمانه فحسب، بل أصبح أعمق وأقوى من ذي قبل، لأنه الآن يقوم على البصيرة والاستدلال.