الحكمة في القرآن هي هبة إلهية تُمنح لمن يشاء الله، ولكنها خاصة بـ "أولي الألباب" (أصحاب العقول والفهم)، والأتقياء، والشاكرين، والداعين إلى سبيل الحق. هذا الخير الكثير هو لمن يدركون عمق الأمور ويطبقونها عمليًا في حياتهم.
إن فهم مفهوم الحكمة في القرآن الكريم هو أحد أعمق المواضيع وأكثرها إثمارًا التي تلقي نور الهداية على القلوب والعقول. فالحكمة ليست مجرد علم أو معلومات، بل هي بصيرة، ورؤية عميقة لحقائق الوجود، وقدرة على التمييز بين الصواب والخطأ، والقدرة على وضع كل شيء في موضعه الصحيح. إنها هبة إلهية تمكن الإنسان من بناء حياته على مبادئ القرآن والسنة النبوية، ومواجهة تحديات الدنيا بذكاء وتوازن. يوضح القرآن الكريم أن الله يهب هذه الحكمة لمن يشاء، ولكنه في الوقت نفسه، يصف لنا صفات وأفعال من يكونون مؤهلين لتلقي هذه الموهبة العظيمة. الآية 269 من سورة البقرة هي الأكثر صراحة وأساسية في هذا الصدد: "يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ". هذه الآية توضح بشكل جميل أن الحكمة هي هبة إلهية تتوقف على مشيئة الله، ولكنها تطرح فورًا شرط "أولي الألباب" (أصحاب العقول والفهم) للتذكر وإدراك عمقها. "أولو الألباب" هم الذين يستخدمون عقولهم وفطرتهم للتأمل في آيات الله، وعلامات الخلق، وحقائق الحياة. إنهم أناس تفكر وتدبر وتعقل؛ الذين لا ينظرون إلى الأمور بسطحية بل يسعون لفهم جوهر المسائل. فبملاحظة العالم وظواهره، يتجاوزون الظواهر ليكشفوا عن حكمة وقوة وعظمة الخالق. لا يكتفون باكتساب المعرفة فحسب، بل يسعون لتطبيقها في الحياة والوصول إلى بصيرة ترشدهم إلى الطريق الصحيح. لذا، فالحكمة ليست مخصصة لمن يمتلكون الكثير من المعلومات فقط، بل هي لمن يحولون المعلومات إلى بصيرة وعمل صالح. من الفئات الأخرى التي يربط القرآن الكريم صفاتها بالحكمة هم الأتقياء والصالحون. فرغم أن الحكمة لم تُنسب مباشرة إلى "الأتقياء" بشكل حصري، إلا أن العديد من الأوامر والنواهي التي أشار إليها القرآن، والتي يدل الالتزام بها على التقوى، هي نفسها مظاهر للحكمة العملية. على سبيل المثال، في سورة الإسراء، بعد ذكر سلسلة من الأحكام الأخلاقية والاجتماعية مثل عدم عبادة غير الله، والإحسان إلى الوالدين، وعدم قتل الأبناء، والابتعاد عن الزنا، وعدم الاعتداء على مال اليتيم، والوفاء بالعهد، ومراعاة العدل في المعاملات، وعدم التكبر، يقول الله تعالى: "ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ۗ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا". تشير هذه الآية إلى أن اتباع هذه المبادئ الأخلاقية والاجتماعية هو بحد ذاته من حكم الله، ومن يلتزم بهذه المبادئ يكون قد سلك طريق الحكمة. وبالتالي، فإن الأفراد الذين يتقون الله، ويعملون بأوامره ويجتنبون محارمه، يكتسبون قدرة أكبر على تلقي الحكمة وفهمها. شخصية لقمان الحكيم هي مثال بارز لمن وهبه الله الحكمة. في سورة لقمان، الآية 12، يقول الله تعالى: "وَلَقَدْ آتَیْنَا لُقْمَانَ الْحِکْمَةَ أَنِ اشْکُرْ لِلَّهِ ۚ وَمَن یَشْکُرْ فَإِنَّمَا یَشْکُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن کَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِیٌّ حَمِیدٌ". ارتبطت حكمة لقمان بالشكر. هذا يدل على أن الشكر والامتنان على نعم الله، ليس فقط وسيلة لزيادة الرزق والبركة، بل هو أيضًا أحد المفاتيح لفتح أبواب الحكمة. فالشخص الشاكر يدرك عظمة نعم الله، وهذا الإدراك يمنحه بصيرة وحكمة. إن نصائح لقمان لابنه، الواردة في القرآن (مثل عدم الشرك، والإحسان إلى الوالدين، وإقامة الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على المصائب، وعدم التكبر)، كلها تنبع من حكمته الإلهية وتوضح الأبعاد العملية والتطبيقية للحكمة في الحياة اليومية. الحكمة أيضًا لمن يتولون مهمة الدعوة إلى الله. في سورة النحل، الآية 125، نقرأ: "ادْعُ إِلَىٰ سَبِیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ ۚ". تؤكد هذه الآية بوضوح أن الدعوة إلى الدين يجب أن تكون بالحكمة. الحكمة هنا تعني معرفة المخاطب، وفهم الظروف، واختيار أفضل وقت ومكان، واستخدام الأساليب المناسبة لنقل الرسالة الإلهية. هذا يدل على أن الحكمة ليست مجرد موهبة فردية، بل هي أداة قوية لهداية المجتمع وإصلاحه. لذلك، كل من يسعى لنشر الرسالة الإلهية وهداية الآخرين، يجب أن يسعى لاكتساب الحكمة ليتمكن من أداء واجبه على أكمل وجه. باختصار، الحكمة في القرآن ليست مخصصة لفئة محددة ومحدودة من البشر، بل هي هبة إلهية تُمنح لمن يشاء الله. ولكن هذا المنح ليس بلا سبب. فالحكمة تُعطى لأولئك الذين هم "أولو الألباب"، أي أهل الفكر والتأمل العميق، ويستخدمون عقولهم لإدراك الحقائق. وتُعطى لمن يلتزمون بالتقوى والصلاح ومراعاة المبادئ الأخلاقية والاجتماعية. وتُعطى لمن يشكرون نعم الله ويقدرون خالقهم. ولمن يدعون إلى الله ببصيرة ومنهج صحيح. بعبارة أخرى، الحكمة هي نتيجة ومكافأة للقلوب المستعدة، والعقول النشطة، والإرادات الثابتة في طريق الحق. يمكن لكل مؤمن يسير في طريق التقوى والتفكر والشكر والجهاد في سبيل الله، أن يأمل أن يرزقه الله تعالى هذا الخير الكثير.
في كتاب گلستان سعدي، يُروى أن ملكًا سأل حكيمًا: «ما قيمة الجوهرة الثمينة؟» فأجاب الحكيم: «قيمتها هي مقدار حاجتك إليها.» لم يفهم الملك قصد الحكيم. فتابع الحكيم: «كلما قلت حاجتك لشيء، زادت قيمته الحقيقية. فمثلاً، إذا كنت عطشانًا، فإن الماء بالنسبة لك أثمن من الذهب، أما إذا كنت مرتويًا، فقد لا يكون لقطرة الماء أي قيمة. لكن الحكمة، هي جوهرة كلما ازددت منها، زادت حاجتك إليها، وتُثريك في كل لحظة. فالحكمة لا تحميك من الزلل فحسب، بل هي دليلك في جميع قرارات الحياة، كالمصباح الذي يُضيء لك الطريق في الظلام. فالحكمة لا تعتمد على الظاهر بل على الباطن والبصيرة العميقة، وهي دائمًا ذات قيمة لا تنتهي الحاجة إليها.» عند سماع الملك لهذه الكلمات المشرقة، انفتحت عينه الداخلية وأدرك أن الحكمة نعمة لا تُحصى، تفوق قيمتها أي ثروة، ولا يمكن الحصول عليها إلا بالطلب الصادق والتفكر العميق.