للعيش مع الله في اللحظة الحالية، يجب أن نذكر وجوده دائمًا (الذكر)، ونلتمس العون بالصبر والصلاة، ونعيش كل لحظة بوعي إلهي من خلال التقوى والتوكل والشكر.
إن العيش مع الله في اللحظة الحالية ليس مجرد مفهوم مجرد، بل هو طريق عملي وعميق لإيجاد السلام والمعنى والإرشاد في جميع جوانب الحياة. لا يعني ذلك أن الله موجود جسديًا في مكان أو زمان محدد؛ بل إن وجوده شامل وأبدي، وعلينا نحن أن ننمّي وعينا وإدراكنا لإدراك هذا الوجود والتناغم معه. يقدم القرآن الكريم بطرق مختلفة وبأسلوب بليغ إرشادات لا تقدر بثمن لتحقيق هذا النمط من الحياة. يتطلب هذا تحولًا في المنظور والموقف؛ من حياة سطحية غارقة في الماديات إلى حياة داخلية وروحية، حيث تكون كل لحظة مصحوبة بذكر الله وحضوره. ولتحقيق ذلك، هناك عدة مبادئ قرآنية يمكن أن تكون لنا منارة، تساعدنا على الشعور بوجود الله والعيش معه ليس فقط في العبادات الرسمية، بل في جميع لحظاتنا اليومية. المبدأ الأول وربما الأهم هو "الذكر"، أو ذكر الله. الذكر ليس مجرد تكرار كلمات معينة؛ بل هو حالة من الوعي القلبي والدائم بوجود الله. يقول القرآن الكريم: "أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" (سورة الرعد، الآية 28). هذا يوضح أن الطمأنينة الحقيقية والمتجذرة لا توجد في الممتلكات المادية أو النجاحات الدنيوية، بل في الاتصال المستقر بمصدر كل الوجود، وهو الله. عندما يتذكر الإنسان الله في كل لحظة، في كل قرار، وفي كل عمل، يتحرر من القلق غير المبرر ويكون له قلب مطمئن وهادئ. هذا التذكير المستمر ينقذنا من الغفلة والارتباك ويهدينا إلى المسار الصحيح. على سبيل المثال، في أوقات الفرح، تذكير أن هذه النعمة هي من الله يزيد الشكر، وفي أوقات الشدة، تذكير قوة الله وحكمته يقوي الصبر والتوكل. يجب أن يستمر هذا الذكر الدائم ليس فقط في الصلاة والدعاء، بل أيضًا في العمل، وفي التفاعل مع الآخرين، وحتى في العزلة، بحيث يُشعر بوجود الله في كل نفس نأخذه. المبدأ الثاني هو أهمية "الصبر" و"الصلاة". يقول الله في القرآن: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" (سورة البقرة، الآية 153). الصلاة هي عمود الدين ومعراج المؤمن. خمس مرات في اليوم، تمنحنا الصلاة فرصة للابتعاد عن ضجيج الدنيا والتحدث مباشرة مع ربنا. هذا الارتباط المنتظم يغذي أرواحنا ويبقينا ثابتين على طريق الحياة. الصلاة هي مرساة روحية في عواصف الحياة؛ لحظات يمكننا فيها أن نسلم كل أعبائنا وهمومنا إليه ونكتسب الطاقة اللازمة لمواصلة طريقنا. والصبر ليس مجرد تحمل للمصاعب، بل هو مقاومة فعالة للذنب وثبات في طريق طاعة الله. عندما نلجأ إلى الله بالصبر والصلاة، فإننا نُقر في الواقع بأن القوة الحقيقية له، وأن عونه سيشملنا دائمًا، وهذا الشعور بالاطمئنان يثبتنا في اللحظة الحالية. المبدأ الثالث هو "التقوى" أو خشية الله والورع. التقوى تعني امتلاك شعور دائم بوجود الله ومراقبة أفعالنا ونوايانا. يقول القرآن: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ" (سورة النساء، الآية 1). التقوى تجعل الإنسان في قراراته اليومية لا يركز فقط على المصالح الدنيوية بل على رضا الله أيضًا. هذه المراقبة الداخلية تمنعنا من ارتكاب الذنوب وتدفعنا نحو فعل الخيرات والأعمال المستحسنة. الشخص التقي يسعى دائمًا ليكون "مُحسنًا". الإحسان يعني أداء الأعمال بأفضل وجه وبنية خالصة لرضا الله. هذا المستوى من الوعي والدقة في أداء الواجبات والتفاعلات لا يفيد الشخص نفسه فحسب، بل يدفع المجتمع أيضًا نحو التحسين والارتقاء. العيش مع الله في اللحظة الحالية يعني أن كل عمل نقوم به، سواء كان صغيرًا أو كبيرًا، يتم بنية إلهية وفي إطار رضاه. المبدأ الرابع هو "التوكل" على الله. التوكل يعني الثقة الكاملة في تدبير الله وتخطيطه في جميع شؤون الحياة. هذا الأمر يكتسب أهمية خاصة عند مواجهة التحديات والمجهول في المستقبل. يقول القرآن: "وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ" (سورة الطلاق، الآية 3). التوكل لا يعني التخلي عن الجهد، بل يعني أن نُسَلّم النتيجة لله بعد بذل الجهد والسعي، وألا نقلق. هذا الشعور بالتوكل يرفع العبء الثقيل لقلق المستقبل عن كاهل الإنسان ويسمح له بالعيش بهدوء وثقة في اللحظة الحالية وأداء واجباته. الشخص الذي يتوكل على الله يعلم أن خيره ومصلحته دائمًا في يد الله، وهذا العلم يمنحه القوة لمواجهة أي شدة. المبدأ الخامس هو "الشكر". الشكر ليس مجرد تعبير لفظي عن الامتنان، بل هو فهم عميق للنعم واستخدامها الصحيح في طريق رضا الله. يقول القرآن: "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِیدَنَّكُمْ" (سورة إبراهيم، الآية 7). الشكر يساعدنا على التركيز على ما لدينا، وليس على ما نفتقده، وهذا المنظور الإيجابي يجعل وجود الله في كل لحظة من حياتنا أكثر واقعية. عندما نستيقظ كل صباح ونشكر الله على نعمة الصحة، العائلة، العمل، وحتى أصغر الأشياء، يصبح العيش مع الله في اللحظة الحالية أسهل وأكثر حلاوة بالنسبة لنا. باختصار، العيش مع الله في اللحظة الحالية هو نهج شامل يتضمن الوعي الدائم (الذكر)، الاتصال المنتظم (الصلاة)، اليقظة الداخلية (التقوى)، الثقة المطلقة (التوكل)، والامتنان العميق (الشكر). هذه المبادئ ليست بالضرورة منفصلة، بل تشكل كلاً متكاملاً مترابطًا. وكلما طبقنا هذه المبادئ في حياتنا اليومية، كلما اقتربنا من الله، وتحسنت جودة حياتنا بشكل ملحوظ. العيش مع الله في اللحظة الحالية يعني إيجاد السلام الداخلي، وامتلاك هدف سامٍ، وتجربة دائمة لحضور المحبة والرحمة الإلهية في كل لحظة من الحياة، بغض النظر عما يحيط بنا. هذا النوع من الحياة يمهد الطريق للسعادة والكمال الحقيقي للإنسان.
يُروى أنه في الأزمنة القديمة، في مدينة كبيرة، كان يعيش رجل ثري قلق دائمًا. كان يفكر باستمرار في جمع الثروة والحفاظ عليها، خوفًا من المستقبل المجهول. بجواره، كان يعيش درويش فقير، لكنه على الرغم من فقره، كان دائمًا يمتلك وجهًا بشوشًا وقلبًا مطمئنًا. ذات يوم، جاء الرجل الثري إلى الدرويش وتنهد بحسرة قائلًا: «يا صديقي، كيف لك مع كل هذا الفقر والعوز، أن يكون قلبك مرتاحًا، بينما نحن، مع كل هذه الممتلكات، لا نجد لحظة راحة؟» ابتسم الدرويش وقال: «يا أخي، أنا أعيش مع الله، وأنت تعيش مع الدنيا. كلما أتى الصباح، أطلب رزق اليوم منه وأعلم أنه لا ينساني. وفي كل ليلة، أضع رأسي على وسادتي وقلبي مطمئن، لأنني أعلم أن رزاقي لا ينام أبدًا. أما أنت، فلديك كنوز وتخشى اللصوص والكوارث السماوية؛ فلا ليلك هادئ ولا نهارك. عندما يكون قلبك مرتبطًا بالغد باستمرار، كيف يمكنك أن تعيش مع الله اليوم؟ دع فكرة الغد واعلم أن كل لحظة تمضي في ذكره هي غنيمة لا تُحصى.» فأخذ الرجل الثري العبرة من كلام الدرويش، وسعى منذ ذلك الحين لأن يعيش كل لحظة بذكر الله والتوكل عليه، فوجد السلام في اللحظة الحالية.