للمسامحة دون أذى متكرر، افصل التسامح الداخلي عن إعادة بناء الثقة والعلاقات الوثيقة. تصرف بحكمة، ضع حدودًا صحية، وتوكل على الله للحماية من الأذى المستقبلي.
تُعدُّ مسألة التسامح في الإسلام من أروع المفاهيم الأخلاقية والروحية وأعمقها، وقد تناولها القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا. ومع ذلك، فإن سؤالك مهم ودقيق للغاية: «كيف أسامح دون أن أتأذى مرة أخرى؟» هذا السؤال يضيف بُعدًا عمليًا وواقعيًا لمفهوم التسامح، لأننا ندرك أن التسامح لا ينبغي أن يعني تكرار الأذى والمعاناة. في الحقيقة، يؤكد الإسلام دائمًا على الاعتدال والحكمة؛ فهو يشجع على التسامح، ولكنه لا يجيز إهمال الذات أو تعريضها لأذى متكرر. يشجع القرآن الكريم المؤمنين مرارًا وتكرارًا على ممارسة العفو والصفح. فالعفو يعني التجاوز عن الذنب والتقصير، والصفح يعني الإعراض عن اللوم والعتاب. وتعتبر هذه الصفات من الفضائل البارزة للمتقين. على سبيل المثال، في سورة آل عمران، الآية 134، يصف الله المتقين بأنهم: «...وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.» توضح هذه الآية بوضوح أن التسامح جزء من الفضائل الأخلاقية التي تقود إلى الإحسان. وكذلك في سورة النور، الآية 22، يقول الله في سياق العفو عن أخطاء الآخرين: «...وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ؟» هذا السؤال الاستنكاري يؤكد على أننا إذا أردنا المغفرة الإلهية، يجب أن نكون متسامحين أيضًا. لكن التسامح في الإسلام لا يعني التغاضي التام عن الفعل الخاطئ أو نسيان الدروس المستفادة منه. التسامح هو عملية داخلية تحررك من قيود الحقد والاستياء. هذه الحرية تمكنك من المضي قدمًا دون حمل أعباء الماضي. لكن هذا التقدم يكون مصحوبًا بالحكمة والبصيرة. فالقرآن الكريم، بينما يوصي بالتسامح، يعطي أهمية أيضًا للعدل وحفظ الحقوق. في سورة الشورى، الآية 40، نقرأ: «وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ.» هذه الآية تبين أنه على الرغم من أن العفو والإصلاح فضيلة عظيمة ولها أجر كبير، إلا أن حق القصاص والمعاملة بالمثل موجود أيضًا. وهذا يعني أن لك الحق في الدفاع عن نفسك ضد الظلم وألا تتعرض للأذى. هذا لا يعني السعي الانتقامي، بل إدراك حقك في الحماية. ولكي تسامح دون أن تتأذى مرة أخرى، لا بد من مراعاة عدة مبادئ مهمة: 1. **فصل التسامح عن إعادة بناء الثقة:** التسامح يعني التخلص من الغضب والحقد من قلبك، وليس بالضرورة إعادة العلاقة إلى حالتها الأصلية أو الثقة مرة أخرى بشخص أذاك. الثقة شيء يجب أن يُكتسب من جديد، وفي كثير من الحالات، بعد الأذى العميق، قد لا تعود بالكامل أبدًا. يمكنك أن تسامح شخصًا ما، دون الحاجة إلى إعادة بناء اتصال وثيق معه أو السماح له بدخول مساحتك الشخصية. 2. **الحكمة والبصيرة:** يؤكد الإسلام على استخدام العقل والحكمة في جميع شؤون الحياة. إذا كان شخص يؤذيك مرارًا ولا يظهر أي علامة على الندم أو تغيير السلوك، فإن الحكمة تقتضي أن تُنشئ مسافة صحية للحفاظ على سلامتك النفسية والجسدية. فالنبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، على الرغم من لطفه وتسامحه اللامتناهي، كان يحمي نفسه وأتباعه عند الضرورة ويحافظ على الحدود. 3. **وضع حدود صحية:** يمنحك التسامح القدرة على التحرر من عبء الماضي، لكن هذه الحرية لا ينبغي أن تعني ترك الأبواب مفتوحة للأذى في المستقبل. ضع حدودًا واضحة وصحية في علاقاتك. يمكن أن تشمل هذه الحدود تقليل الاتصال، أو تغيير طبيعة العلاقة (مثل الانتقال من علاقة وثيقة إلى علاقة أكثر رسمية)، أو حتى قطع الاتصال تمامًا إذا لزم الأمر. هذا ليس بدافع الحقد، بل بدافع الرعاية الذاتية. 4. **التوكل على الله:** من أقوى الأدوات للتخلص من الخوف من الأذى المتكرر هو التوكل الكامل على الله تعالى. عندما تسامح لوجه الله وتتجاوز عن حقك، فإن أجرك على الله، وهو خير حافظ وناصر لك. هذا التوكل يمنحك راحة البال، مع العلم أنه حتى لو فشل الآخرون في إقامة العدل، فإن الله هو العدل المطلق وهو حافظ حقوقك. 5. **التعلم من التجربة:** كل أذى يحمل لنا درسًا. دون الغرق في الماضي، فكر فيما يمكنك تعلمه من هذه التجربة. ستساعدك هذه الدروس على التصرف بتبصر أكبر في المواقف المماثلة في المستقبل وحماية نفسك بشكل أفضل. 6. **الدعاء والاستعانة بالصبر والصلاة:** كما يقول القرآن في سورة البقرة، الآية 153: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ.» تتطلب عملية التسامح، خاصة مسامحة من أذاك مرارًا، صبرًا كبيرًا. والصلاة والدعاء هما أفضل وسيلة لطلب السكينة والقوة الداخلية والحكمة من الله لتتمكن من اجتياز هذا الطريق بنجاح وتحرير نفسك من قبضة الغضب والخوف. في النهاية، التسامح هو هدية تهديها لنفسك. هذه الهدية تحرر قلبك من سلاسل الكراهية والمعاناة. لكن هذه الحرية لا تعني الاستسلام للأذى المتكرر. بل تعني المضي قدمًا في الحياة بوعي وحكمة وتوكل على الله، مع العلم أنك دائمًا تستحق الاحترام والحماية، والله خير حافظ لك. سامح لتصل إلى سلامك الداخلي، واعلم أن الله سيكون حاميك وناصريك، ولكن بعينين مفتوحتين وقلب واعٍ، حافظ على حدودك.
يروى في گلستان سعدي أن ملكاً سامح وزيراً خائناً كان قد خانه مراراً. فسأل أحد الحكماء الحاضرين: «كيف تسامحه وهناك خوف من أن يغدر بك مرة أخرى؟» فأجاب الملك الحكيم: «سامحته لراحة قلبي ورجاءً في كرم الله، فإن الحقد عذاب بحد ذاته. ولكن لئلا يصل ضرر للمملكة مرة أخرى، أبعدته عن المناصب الرئيسية ووضعت له حدوداً واضحة. فالتسامح يشفي جراح القلب، أما العقل فهو مرشد للمستقبل كي تتجنب المهالك.» وبهذه الطريقة، تحرر الملك من قيود الخوف والكراهية، وبقي آمناً من غدر ذلك الوزير.