هل كل تقدم هو بالضرورة خير؟

من منظور قرآني، ليس كل تقدم خيرًا بالضرورة؛ فخلاصة جودته تكمن في توافقه مع القيم الأخلاقية والإلهية وتجنبه للفساد. التقدم الحقيقي هو الذي يؤدي إلى صلاح المجتمع والفرد، ويحافظ على الكرامة الإنسانية والبيئة، لا أن يؤدي إلى الظلم والهلاك.

إجابة القرآن

هل كل تقدم هو بالضرورة خير؟

إن السؤال العميق حول ما إذا كان كل تقدم خيرًا بالضرورة هو من الأسئلة الجوهرية التي تتطلب إجابة شاملة ومتعمقة من منظور القرآن الكريم. فالقرآن، هذا الكتاب الهادي، لا يضع التقدم والتطور غاية في حد ذاتهما أبدًا. بل يركز على نتائجهما وأهدافهما وتوافقهما مع المبادئ الأخلاقية والإلهية. لذلك، من وجهة نظر القرآن، ليس كل تقدم خيرًا بالضرورة، إلا إذا كان متوافقًا مع القيم الروحية والأخلاقية، وأدى إلى صلاح البشرية والأرض، لا إلى الفساد والخراب. يصف القرآن الكريم الإنسان بأنه خليفة الله ونائبه في الأرض (سورة البقرة، الآية 30). وهذه الخلافة تلقي على عاتق البشر مسؤولية جسيمة: إعمار الأرض (سورة هود، الآية 61) وإقامة العدل. فالتقدم الحقيقي من منظور القرآن يجب أن يكون في سياق الوفاء بهذه المسؤولية. إذا أدى أي تقدم، سواء في مجال العلم والتكنولوجيا، أو الاقتصاد والمجتمع، إلى الظلم أو الفساد أو تدهور البيئة، أو الانحراف عن طريق الحق، فإنه لا يُعد 'خيرًا' فحسب، بل هو نوع من 'الفساد في الأرض' الذي لا يحبه الله تعالى. وقد أكدت آيات عديدة هذا المفهوم. فعلى سبيل المثال، في سورة البقرة، الآية 205، يقول تعالى: 'وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ'. تُظهر هذه الآية بوضوح أن الأنشطة التي قد تبدو ظاهريًا لخدمة مصالح مادية أو حتى تُعتبر تقدمًا، إذا أسفرت عن الفساد وتدمير الموارد والأجيال، فهي مدانة في نظر الله. في الواقع، يميز القرآن بوضوح بين 'الصلاح' و 'الفساد'. فـ'الصلاح' يعني الإصلاح والتحسين والتوجيه نحو الخير، بينما 'الفساد' يعني الخراب والانحراف والتدمير. أي تقدم يسهم في صلاح المجتمع والفرد، ويساعد على نمو الفضائل الأخلاقية والروحية، هو تقدم مرغوب ومؤيد. لكن التقدم الذي يؤدي إلى الغرور أو الطغيان أو الاستغلال أو عدم المساواة أو تجاهل حقوق الآخرين، ليس خيرًا فحسب، بل يصبح مصدر شر وبؤس. وتاريخ الأمم السابقة المذكورة في القرآن يشهد على هذا القول. فقد تعرض قوم عاد وثمود، على الرغم من تقدمهما الملحوظ في الهندسة المعمارية والقوة البدنية، للعذاب الإلهي بسبب تكبرهما وظلمهما وانحرافهما عن طريق الحق. وكان فرعون، بكل قوة مملكته وعظمتها، رمزًا للتقدم المادي الذي لا يرافقه هدى إلهي، مما أدى إلى استكباره وظلمه، وفي النهاية دمر. تُظهر هذه الأمثلة أن القوة والمعرفة، إذا لم تكن مصحوبة بالتقوى والعدل، تتحول إلى أدوات هلاك. علاوة على ذلك، تحذر سورة الأعراف، الآية 56: 'وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ'. هذه الآية تشير إلى أن الأرض قد 'أصلحت' من قبل الله (جعلها صالحة ومُنتجة)، وواجب البشرية هو الحفاظ على هذه الحالة من النظام وعدم تخريبها بـ'الفساد'. 'التقدم' في العالم الحديث، قد يعني أحيانًا التدخل المفرط في الطبيعة، أو إنتاج أسلحة فتاكة، أو تطوير تقنيات تهدد الخصوصية والقيم الإنسانية. إذا أدت هذه 'التطورات' إلى تدمير بيئي، أو حروب وإراقة دماء، أو انهيار أخلاقي، فإنها بالتأكيد ليست خيرًا من المنظور القرآني؛ بل هي مذمومة ومنبوذة. ويؤكد القرآن على التوازن الحاسم بين الحياة الدنيا والآخرة. في سورة القصص، الآية 77، يقول تعالى: 'وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ'. توفر هذه الآية إطارًا شاملاً لأي شكل من أشكال التقدم: يجب على المرء أن يستغل النعم الدنيوية لتحقيق السعادة الأخروية، لكنه في الوقت نفسه لا ينبغي أن ينسى نصيبه من المتع الدنيوية المباحة. ويجب عليه أن يحسن إلى الآخرين، كما أحسن الله إليه، وأن يمتنع عن إحداث أي فساد في الأرض. هذا يعني أن التقدم الاقتصادي والتكنولوجي يكون ذا قيمة فقط عندما يتم السعي إليه بهدف الارتقاء بالروحانيات والأخلاق، وخدمة البشرية، والحفاظ على البيئة. وفي الختام، يمكن القول إن معيار 'جودة' التقدم لا يكمن في سرعته أو حجمه، بل في اتجاهه ونتائجه الأخلاقية والإلهية. فالتقدم الذي يؤدي إلى زيادة العدل، والحد من الفقر، وتحسين العلاقات الإنسانية، والحفاظ على كرامة البشر، والنمو الروحي، وحماية البيئة، هو تقدم مرغوب. لكن أي تقدم يبعد البشرية عن الله، ويؤدي إلى الكبرياء والأنانية، ويزيد من عدم المساواة والظلم، ويهدم الأسس الأخلاقية والطبيعية، ليس خيرًا فحسب، بل يمكن أن يكون سببًا للسقوط والهلاك. لذلك، لتقييم أي تقدم، يجب على المرء أن يسأل نفسه: هل هذا التقدم يقربنا من الله أم يبعدنا؟ هل يزيد العدل والخير أم الظلم والفساد؟ هل يحافظ على كرامة الإنسان أم يدوس عليها؟ إجابات هذه الأسئلة توفر المعيار القرآني للتمييز بين 'الخير' و 'الشر' في مفهوم التقدم. يذكّر هذا المنظور البشر بضرورة استخدام معرفتهم وقدراتهم ببصيرة وحكمة إلهية، لتكون النتائج لمصلحتهم ومصلحة الخلق كله، لا مصدر ضرر وندم في الدنيا والآخرة.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

يحكي أنّه في قديم الزمان، كان هناك سلطان قوي يسعى دومًا لخلد اسمه ببناء صروح عظيمة وتوسيع ملكه. أمر ببناء قصور من الحجر والرخام لا مثيل لها في الجمال، وأرسل جيوشه إلى بلاد بعيدة ليجمع كنوز العالم. انبهر الناس بعظمة تقدمه، ولقبوه بـ "السلطان الباني". لكن هذا السلطان، لتمويل هذه الأبنية والحملات العسكرية، كان يظلم شعبه بشدة، ويغتصب أراضيهم قسرًا، ولا يبالي بآهات الفقراء. درويش حكيم، كان يراقب الأوضاع من بعيد، قال ذات يوم لأحد حاشية السلطان: "يا محظوظ، إن ملكك يبني الصروح بالحجر والذهب، لكنه يهدم أسس العدل والرحمة. فما يبدو ظاهريًا تقدمًا، هو في الحقيقة، خراب في قلب المملكة." نقل الحاشي هذا الكلام إلى السلطان. فضحك السلطان، وأشار بفخر إلى قصوره الشاهقة وقال: "ألا تتحدث هذه عن العظمة؟" لكن لم يمضِ وقت طويل حتى أرهق ظلم السلطان رعيته، وجفت الأراضي من الإهمال والجور، ومزقت النزاعات الداخلية البلاد. ظلت قصوره الفاخرة خاوية وصامتة؛ ليست رمزًا للتقدم، بل تذكارًا للحماقة. فالتقدم الحقيقي يُبنى على العدل والإحسان، لا على مجرد الحجر والطموح.

الأسئلة ذات الصلة