هل الصبر يعني القبول المطلق؟

لا، الصبر في القرآن ليس قبولاً مطلقاً؛ بل هو فضيلة فعالة تشمل المثابرة، والسعي نحو الحق، ومحاربة الذنب والظلم. إنه قوة ديناميكية للثبات على الطريق الإلهي والتغلب على التحديات.

إجابة القرآن

هل الصبر يعني القبول المطلق؟

في تعاليم القرآن الكريم الغنية والعميقة، يحتل مفهوم «الصبر» مكانة متميزة، ولا ينبغي بأي حال من الأحوال تفسيره على أنه قبول مطلق، أو استسلام سلبي، أو خضوع تام لأي ظرف، حتى لو كان ظلماً وجوراً. الصبر في الإسلام ليس سلبية، بل هو فضيلة فعالة، قوة داخلية قوية، واستراتيجية حكيمة لمواجهة تحديات الحياة. هذه الفضيلة تشمل المثابرة، والصمود، وضبط النفس، وتحفظ المؤمن ثابتاً على طريق الحق والعدل، سواء في أوقات البلاء والمصائب، أو عند مواجهة الإغراءات والذنوب، أو في أداء الواجبات والعبادات. يشير القرآن الكريم إلى أنواع مختلفة من الصبر، يكشف كل منها عن جانب من دينامية هذا المفهوم. النوع الأول هو «الصبر على الطاعات»؛ أي المثابرة في أداء أوامر الله، حتى لو كانت شاقة. أداء الصلاة في البرد والحر، والصوم في العطش والجوع، والإنفاق عندما نكون في حاجة، كلها أمثلة على الصبر على الطاعات. هذا النوع من الصبر يتطلب جهداً ومجاهدة نشطة، وليس قبولاً غير مبالٍ للوضع. يجب على الفرد أن يجاهد نفسه ويتغلب على رغباته العابرة ليتمكن من الاستمرار في طريق العبودية لله. النوع الثاني هو «الصبر عن المعاصي»؛ ويعني الثبات في مواجهة إغراءات الذنوب والامتناع عن ارتكاب المحرمات الإلهية. في عالم مليء بالجاذبيات المادية والشهوانية، تتطلب مقاومة الذنوب إرادة فولاذية وممارسة الصبر في مواجهة الأهواء النفسية. هذا النوع من الصبر أيضاً نشط تماماً ومكافح؛ يجب على الفرد أن يواجه بوعي عوامل الذنب، ويبتعد عن البيئات الفاسدة، ويطلب العون من الله ليظل بمنأى عن السقوط في الخطأ. هذا لا يعني أن الإنسان يجب أن يجلس فقط ويتقبل الذنب، بل يجب أن يحاربه بنشاط. النوع الثالث، وربما الأكثر شهرة، هو «الصبر عند المصائب والبلاء». هذا النوع من الصبر يعني تحمل المشقات، وفقدان الأحباء، والأمراض، والفقر، وغيرها من البلايا التي تحدث في الحياة. لكن هذا التحمل لا يعني بأي حال من الأحوال عدم الاستجابة أو عدم السعي لتحسين الأوضاع. الصبر هنا يعني الحفاظ على هدوء القلب واللسان، والتوكل على الله، وعدم الجزع أو الفزع غير المبرر. الفرد الصابر يطلب العون من الله ويسعى بحكمة وتدبر لإيجاد طريق للنمو والارتقاء من قلب المصائب. يستمد قوته من رؤية أن «إنا لله وإنا إليه راجعون» ويدرك أن كل ابتلاء من الرب هو فرصة للتقرب والنمو. هذا الصبر يمنعه من اليأس والقنوط ويمنحه القوة ليقف بثبات أمام التحديات ويبحث عن حلول. على سبيل المثال، إذا أصيب شخص بمرض، فإن صبره يشمل تحمل الألم والمعاناة، ولكن إلى جانب ذلك يجب أن يسعى للعلاج، لا أن يتقبل المرض بسلبية. يؤكد القرآن الكريم في آيات متعددة على الطابع الفاعل للصبر. في سورة البقرة، الآية 153، يقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ»؛ «يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة؛ إن الله مع الصابرين». هذه الآية تقدم الصبر وسيلة لطلب العون وبلوغ الهدف، وليس غاية للسكون والكسل. الاستعانة بالصبر تعني الاستخدام الفعال لقوة التحمل لدفع الأمور قدماً والتغلب على المشاكل. وكذلك في سورة آل عمران، الآية 200، نقرأ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»؛ «يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون». الكلمات «صَابِرُوا» (من باب المفاعلة الذي يدل على المشاركة والثبات الجماعي) و «رَابِطُوا» (بمعنى الاستعداد والحفاظ على الجاهزية ضد العدو) تظهر بوضوح أبعاد الصبر الاجتماعية والديناميكية والجهادية. هذه الآيات تعلمنا أن الصبر ليس مجرد حالة داخلية، بل هو عمل خارجي واستراتيجية للنصر والفلاح. الأهم من ذلك، أن الصبر لا يعني قبول الظلم أو عدم مواجهة الباطل. الإسلام لا يسمح للمسلمين أبداً بالصمت أمام الظلم أو السلبية تجاهه. الصبر على الظلم يعني تحمل المشقات والصعوبات في النضال من أجل التحرر من الظلم، وليس الاستسلام له. كان النبي الأكرم (صلى الله عليه وسلم) والأئمة الأطهار (عليهم السلام) أمثلة بارزة لهذا النوع من الصبر الفعال؛ لقد قاوموا الكفر والظلم لسنوات عديدة وتحملوا صعوبات جمة لتحقيق انتصار الإسلام. هذا الصبر كان شجاعة عظيمة أبقتهم ثابتين على الطريق الصعب للجهاد والدعوة. ختاماً، الصبر في القرآن الكريم فضيلة ديناميكية وعملية. إنه ليس قبولاً أعمى ناتجاً عن العجز، بل هو قرار واعٍ بالثبات على طريق الحق، ومحاربة الباطل، والسعي لتحقيق الأهداف الإلهية. الصبر يمنحنا القوة لنظل ثابتين في مواجهة الصعوبات، ونتجنب اليأس، ونتوكل على الله، ونجد الحلول ونتقدم نحو الإصلاح والنصر. هذه الفضيلة هي عمود الإيمان ومفتاح تحقيق الفلاح ورضا الله تعالى.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

يروى في گلستان سعدي أن ملكاً في اليمن كان له ابن زاهد تقي يفضل العزلة على أي منصب أو مكانة. دعاه والده لتولي العرش، لكن الابن رفض وقال: «أفضل الفقر مع القناعة على الثراء مع عدم الرضا.» فقال وزير الملك لوالده: «أيها الملك! لديك أعداء كثر، وابنك في رأينا ليس قوياً بما يكفي ليجلس على العرش ويحمي المملكة.» أجاب الابن بابتسامة: «أيها الوزير الحكيم، الرجل الضعيف يستطيع بقوّة صبره وحكمته أن يتغلب على الأعداء الأقوياء. ألا تعلم أن النملة الصغيرة، إذا دخلت أذن فيل عظيم، تستطيع أن تقضي عليه؟» هذه القصة تعلمنا أن الصبر والثبات، حتى في مواجهة التحديات الكبيرة، ليسا مجرد سلبية، بل هما مفتاح تحقيق النصر والتغلب على الصعوبات، تمامًا مثل تلك النملة الصغيرة التي أطاحت بأقوى المخلوقات بمثابرتها وثباتها. الصبر يعني الثبات في طريق الجهد، لا التخلي عنه.

الأسئلة ذات الصلة