لا، الإيمان في الإسلام لا يعني الاستغناء المطلق عن البشر؛ بل على العكس، يؤكد بشدة على الروابط الإنسانية المتينة والتعاون والتضامن الاجتماعي. المؤمن الحقيقي، بالاعتماد على الله، يشارك بفعالية في المجتمع ويخدم الآخرين.
الإيمان في الإسلام لا يعني بتاتًا الاستغناء المطلق عن البشر؛ بل على النقيض من ذلك، فإن الإسلام دين مبني على الروابط الإنسانية المتينة، والتعاون، والتضامن الاجتماعي، ورعاية الحقوق المتبادلة. مفهوم الإيمان الحقيقي، كما وضحته آيات القرآن الكريم وسنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لا يكتفي بذم الانعزال والابتعاد عن الناس، بل يعتبره منافيًا للروح الجماعية والمسؤولية الإيمانية للمؤمن. الاستغناء المطلق هو صفة تليق بذات الله تعالى وحده، الذي هو «الغني الحميد»، وجميع الكائنات في النهاية في حاجة إليه. الإنسان، حتى في أوج إيمانه وتقواه، هو مخلوق محتاج؛ سواء من الناحية الجسدية أو الروحية والاجتماعية. هذه الحاجة المتبادلة هي حكمة إلهية تمهد لنمو المجتمع البشري وتعاونه ورحمته. لقد أكد القرآن الكريم في آيات عديدة على أهمية العلاقات الاجتماعية والمحبة والتعاون ورعاية بعضنا البعض. على سبيل المثال، في سورة المائدة، الآية 2، نقرأ: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ». هذه الآية تؤسس بوضوح مبدأ التعاون كأحد الأركان الأساسية للتفاعلات بين المؤمنين. كيف يمكن التعاون في البر والتقوى إذا كان من المفترض أن يكون البشر مستقلين تمامًا عن بعضهم البعض؟ هذا يظهر أن الإيمان لا يفصل الفرد عن المجتمع، بل يحوله إلى عنصر فعال وبناء فيه، فهو يساعد الآخرين ويستفيد من مساعدتهم. بالإضافة إلى ذلك، فإن مفهوم «الأخوة الإيمانية» الذي أشارت إليه سورة الحجرات، الآية 10: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ»، يؤكد بشدة على ضرورة الروابط العاطفية والعملية العميقة بين المؤمنين. فالأخوة تعني الدعم، والتعاطف، والنصح، والمساعدة، وكل هذه الأمور تتطلب الوجود والتفاعل مع الآخرين. وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم المجتمع الإسلامي بجسد واحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. هذا التشبيه يوضح التضامن العميق والحاجة المتبادلة لأعضاء المجتمع الواحد. لقد حدد الإسلام حقوقًا كثيرة للأفراد في المجتمع؛ حقوق الجار، والأقارب، والفقراء، واليتامى، والمساكين، وحتى حقوق الحيوانات والبيئة. إن أداء هذه الحقوق والوفاء بالمسؤوليات الاجتماعية يستلزم المشاركة الفعالة في المجتمع والتفاعل مع أفراده. الزكاة والصدقات، التي تعتبر من أركان الدين، هي أمثلة واضحة للمساعدة المالية للمحتاجين، والتي لا يمكن أن تكتسب معناها دون وجود حاجة في المجتمع وتفاعل بين المعطي والمستقبل. مساعدة الأيتام والمساكين، وعيادة المرضى، وحضور الجنائز، وقضاء حوائج المؤمنين، والعديد من الأعمال الصالحة الأخرى، كلها تتحقق في سياق المجتمع ومن خلال التواصل مع البشر. قد يتصور البعض أن التوكل على الله والاستغناء عن الخلق يعني عدم الحاجة إلى الآخرين. ولكن التوكل الصحيح يعني الثقة القلبية بالله وتفويض الأمور إليه، مع الأخذ بجميع الأسباب والوسائل المتاحة في العالم، بما في ذلك الاستعانة بالآخرين. لقد بنى الله تعالى الكون على أساس نظام الأسباب والمسببات، وخلق البشر في حاجة بعضهم إلى بعض. هذه الحاجة المتبادلة هي وسيلة لاختبار البشر، ولتنمية الفضائل الأخلاقية مثل الإيثار، والسخاء، والصبر، والشكر. لو كان البشر مستغنين تمامًا عن بعضهم البعض، لفقدت العديد من المفاهيم الأخلاقية والاجتماعية كالإيثار، والعفو، والمغفرة، وصلة الرحم، وحتى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معناها. في الحقيقة، جزء كبير من العبادات في الإسلام له بعد اجتماعي؛ مثل صلاة الجمعة والجماعة، والحج الذي هو تجسيد للوحدة والتضامن العالمي للمسلمين، والصيام الذي يعزز حس التعاطف مع الجائعين والفقراء. هذه العبادات الجماعية تمنح المؤمنين الفرصة لتعزيز روابطهم، والاستفادة من تجارب بعضهم البعض، وتنمية روح التعاون في أنفسهم وفي المجتمع. حتى مبدأ «الشورى» أو المشاورة الذي أكد عليه القرآن (كما في سورة الشورى الآية 38)، يدل على أن حتى قادة المجتمع بحاجة إلى الاستفادة من العقل الجمعي والتشاور مع الآخرين لاتخاذ القرارات الصائبة. في الختام، يمكن القول إن الإيمان الحقيقي في الإسلام يحول الإنسان إلى كائن قوي ومستقل روحيًا لا يحتاج إلى معونة أو فضل مباشر من أي إنسان، لأن سنده هو الله. لكن هذا لا يعني الانفصال عن المجتمع وعدم الحاجة إلى التفاعل مع الآخرين. بل يعني أن الإنسان، بالاعتماد على الله، يستطيع أن يكون أكثر فاعلية في المجتمع، ويخدم الآخرين، ويستفيد من خدمة الآخرين. هذه التفاعلات هي في الواقع تجلي لإرادة الله في إعمار الأرض وتكامل البشرية. الإيمان لا يقرب الفرد من الله فحسب، بل يضعه في شبكة واسعة من العلاقات الإنسانية، كل عقدة فيها متصلة بالأخرى بخيط من المحبة والتعاون والمسؤولية. لذا، فإن المؤمن الحقيقي ليس غريبًا عن المجتمع، بل يعيش في قلبه ويساهم في تحسينه وتنميته. هذه النظرة الشاملة للإيمان تبين أن الإسلام دين حياة واجتماع، وليس دين عزلة واعتزال. الاستغناء المطلق عن البشر يشبه الغرور والأنانية أكثر من كونه علامة على الإيمان. الإيمان الحقيقي يجعل الإنسان متواضعًا وخادمًا للآخرين، ويدفعه نحو التفاعل البناء والمؤثر في المجتمع.
في الأزمنة الغابرة، في مدينة عامرة بالحكمة والعلم، عاش رجلان. أحدهما، واسمه "عابد"، كان يجلس دائمًا في زاوية معبده، معتقدًا أنه لا يمكن الوصول إلى الاستغناء والكمال الروحي إلا بقطع الصلة تمامًا بالبشر. كان يتجنب الجميع ويقول: "إيماني يغنيني عن كل أحد، ولا أحتاج لأحد سوى الله." وفي نفس المدينة، عاش رجل آخر يدعى "كمال"، وكان أيضًا من أهل الدين والتقوى، ولكنه لم يبتعد قط عن الناس. كان موجودًا في السوق وبين الناس، يساعد المحتاجين، يتعاطف مع المرضى، ويتقدم في أعمال الخير. كان عابد يراه ويقول لنفسه: "كمال لا يزال مقيدًا بالدنيا والخلق." ذات يوم، اشتد الشتاء وتساقط الثلج بغزارة. عابد الذي نفدت مؤونته ولم يكن لديه سبيل للحصول على الطعام، كان يعاني من الجوع والبرد في ركن معبده. في هذه الأثناء، كان كمال ومعه مجموعة من جيرانه يحملون الحطب والطعام إلى بيوت الفقراء والمحتاجين. عندما مروا بجوار معبد عابد، رأوه مستلقيًا ضعيفًا ومنهكًا. دخل كمال بلطف، وبمساعدة رفاقه، دفأ عابد وأطعمه. عندما استعاد عابد بعض قوته، قال بخجل: "كنت أظن أن الإيمان يغنيني عن كل أحد. ولكن اليوم فهمت أن الاستغناء المطلق لله وحده، وأنه جعل البشر وسيلة للرحمة والمساعدة لبعضهم البعض. في عزلتي، كنت غافلاً عن الرحمة والحكمة الإلهية الجارية بين البشر." ابتسم كمال وقال: "إن قوة الله تتجلى في اجتماع عباده وتعاونهم. الإيمان الحقيقي ليس بُعدًا، بل هو قرب من الخلق لخدمة الحق." منذ ذلك الحين، أدرك عابد أيضًا أن الإيمان الحقيقي يجعل الإنسان أكثر تواضعًا وخدمة، لا منعزلاً ومتعجرفًا. فانضم إلى الناس وأصبح نشطًا في مساعدة المحتاجين، وبهذا ذاق حلاوة التضامن والمحبة.