الصمت غير المبالي تجاه ذنوب الآخرين، خاصة الذنوب الواضحة والمضرة بالمجتمع، هو نوع من التقصير في واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. يمكن اعتبار هذا الصمت شكلاً من أشكال الخيانة للقيم الإلهية والاجتماعية وسلامة المجتمع.
الصمت أمام ذنوب الآخرين، موضوع تم تناوله في التعاليم الإسلامية، وخاصة في آيات القرآن الكريم، بحساسية ودقة خاصة. للإجابة على سؤال "هل الصمت عند رؤية ذنوب الآخرين يعتبر خيانة؟"، يجب علينا أولاً التطرق إلى مفهوم "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، الذي يعد أحد الأركان الأساسية للمجتمع الإسلامي والمسؤوليات الفردية والجماعية للمؤمنين. يعتبر القرآن الكريم المسلمين أمة واحدة تتولى مسؤولية مراقبة بعضهم البعض وتوجيههم نحو الخير ومنعهم من الشر. هذه المسؤولية ليست مجرد توصية أخلاقية، بل هي واجب شرعي يلعب دوراً حيوياً في صحة وحيوية المجتمع. تكمن جذور هذا الواجب الإلهي في العديد من آيات القرآن الكريم التي تؤكد على أهمية التعاون على البر والتقوى، وعدم التعاون على الإثم والعدوان. وهذا يعني أن على المؤمنين مساعدة بعضهم البعض في طريق الخير والتقوى، والابتعاد عن أي تعاون في الخطيئة والعدوان. الصمت أمام الذنب، في ظروف معينة، يمكن أن يعتبر إهمالاً للنهي عن المنكر وحتى شكلاً من أشكال المساعدة غير المباشرة للمذنب، خاصة إذا كان ذلك الذنب يفسد المجتمع علناً ويتعدى على حقوق الآخرين. هذا المنظور يعتبر الصمت ليس مجرد تقاعس، بل هو فعل سلبي ضد إقامة العدل والخير. يؤكد القرآن الكريم بوضوح على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. في سورة آل عمران، الآية 104، نقرأ: "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ". هذه الآية تبين بوضوح أن وجود جماعة من الناس تضطلع بهذه المهمة الحيوية ضروري لفلاح المجتمع. الصمت المطلق أمام الذنب، خاصة الذنوب الواضحة والتي تؤثر على المجتمع، يمكن أن يعني التغاضي عن هذا الواجب الإلهي، ويترتب عليه عواقب خطيرة على الفرد والمجتمع. هذا الصمت يمكن أن يؤدي بمرور الوقت إلى اللامبالاة وإزالة قبح الذنب، مما سيمهّد الطريق لفساد أوسع. في هذه الحالة، يتدهور المجتمع أخلاقياً، وتتداخل حدود الخير والشر. الصمت لا يسمح للمنكر بأن يتجذر في المجتمع فحسب، بل يمكن أن يعطي المذنب انطباعاً بأن عمله مقبول أو على الأقل متجاهل، مما يثبته في طريق الذنب. علاوة على ذلك، قد يشجع هذا الصمت الآخرين على ارتكاب نفس الذنب، حيث أصبح المناخ الاجتماعي متقبلاً لذلك الفعل السيئ. هذه المسؤولية الجماعية، التي فرضها القرآن على المسلمين، تتجاوز المصلحة الفردية وتتعلق بصحة الحياة الطيبة للأمة بأكملها. وقد نبه النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار (عليهم السلام) في روايات متعددة إلى أهمية هذه الفريضة، وذموا الصمت أمام المنكر بشدة. يمكن أن يُعتبر الصمت في هذه الحالات نوعاً من التأييد الضمني للذنب، أو على الأقل يعني عدم الاهتمام بالمصير الأخلاقي والروحي للمجتمع. من منظور القرآن، لا ينبغي للمؤمنين أن يكونوا غير مبالين بالانحرافات، لأن عليهم واجب الالتزام "بالأخوة الإسلامية" والسعي لإصلاح بعضهم البعض. هذا الجهد هو جزء من المحبة والرحمة التي يكنها المؤمنون لبعضهم البعض. عدم القيام بهذا الواجب، يمكن أن يكون بمثابة خيانة لهذه الأخوة والعهد الإلهي الذي قبله كل مؤمن باعتناقه الإسلام. هذه الخيانة ليست بمعنى إفشاء سر أو التنكر للثقة الفردية، بل بمعنى عدم الاضطلاع بالدور الحيوي في الحفاظ على صحة المجتمع الأخلاقية، وعدم الوفاء بالعهد الإلهي لإقامة العدل والخير. هذا الصمت، بمرور الوقت، يمكن أن يضعف الإيمان في القلوب ويزيل حس المسؤولية. في سورة المائدة، الآية 79، يذم الله بشدة أولئك من بني إسرائيل الذين "كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ". هذه الآية تظهر أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس مجرد إهمال بسيط، بل هو جريمة كبيرة وعامل للخروج عن الهداية الإلهية. هذا الصمت لا يسمح للمذنب بالتوغل أكثر في ذنبه فحسب، بل يبعد المجتمع أيضاً عن الطهر والصلاح. عندما يتخلى مجتمع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يصبح هذا المجتمع في خطر السقوط، وقد يحل العذاب الإلهي ليس فقط على المذنبين، بل على جميع ساكنيه، كما أشارت آيات عديدة في القرآن إلى قصص الأمم السابقة. هذا العذاب قد يظهر بأشكال مختلفة منها زوال البركات، وزيادة المشاكل، والتفرقة في المجتمع، وفقدان الأمن والطمأنينة. هذا تحذير جاد حول مدى حيوية وأهمية المسؤولية الاجتماعية، بما في ذلك واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في تحديد مصير أمة. لذا، فإن الصمت أمام ذنوب الآخرين، في الحالات التي تتوفر فيها شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويؤدي الصمت إلى ترويج الذنب أو إلحاق ضرر أكبر، يمكن اعتباره نوعاً من "الخيانة". لكن هذه الخيانة ليست بمعنى خيانة فرد معين، بل بمعنى خيانة العهد الإلهي، وخيانة للمجتمع الإسلامي، وخيانة للمبادئ والقيم القرآنية، وخيانة للمسؤولية التي وضعها الله على عاتق المؤمنين. هذه المسؤولية هي حماية حدود الحق والباطل والسعي لإقامة العدل والقسط في الأرض. هذه الخيانة من نوع يؤثر على الطبيعة الجماعية للإيمان والمسؤولية المشتركة عن الحفاظ على الصحة الروحية والأخلاقية للمجتمع. الصمت بهذا المعنى، هو خرق للثقة الإلهية التي منحت للبشر لإعمار الأرض وإقامة النظام الإلهي. يجب الانتباه أيضاً إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له شروطه ومراتبه الخاصة. يجب أن تتم هذه الفريضة بحكمة، وموعظة حسنة، وجدال أحسن. الأولوية للتعامل اللفظي والنصيحة، إلا في الحالات التي يكون فيها الذنب كبيراً جداً وواضحاً، ولا يبقى سبيل إلا التدخل العملي. كذلك، إذا تعرض الفرد بسبب أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر لخطر جسيم لا يطاق على حياته أو ماله أو عرضه، فإن هذا التكليف يسقط عنه في بعض الحالات أو تتغير مراتبه. لكن هذا لا يعني أن قلبه لا ينبغي أن يكره الذنب. أدنى مراتب النهي عن المنكر هو الإنكار القلبي للذنب، حتى لو لم تكن هناك قدرة على الفعل العملي أو القولي. فالصمت المطلق المصحوب بالرضا أو اللامبالاة القلبية غير جائز بتاتاً. الصمت الناجم عن العجز أو الخوف المبرر يختلف عن الصمت الناجم عن اللامبالاة والرضا بالذنب. المهم هو أن توجد النية والقلق للإصلاح، حتى لو لم يكن التعبير ممكناً بسبب عوائق خارجية. هذا التمييز في النية والشعور الداخلي يحدث فرقاً كبيراً في تقييم فعل الفرد. في الواقع، حتى لو لم نستطع تغيير المنكر بالقول أو الفعل، فإن واجبنا على الأقل أن نكرهه في قلوبنا، ونتمنى إزالته، وندعو لذلك. وهذا الحد الأدنى يدل على عدم الرضا القلبي والولاء للمبادئ الإلهية. في الختام، يوضح القرآن الكريم، من خلال تشجيعه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، المسؤولية الاجتماعية للمؤمنين تجاه ذنوب بعضهم البعض. إن الصمت المطلق وغير المبالي في مواجهة الذنوب التي تضر بالمجتمع، ليس مجرد إهمال لواجب ديني، بل يمكن أن يؤدي إلى عواقب وخيمة فردية وجماعية. هذا الصمت هو، بطريقة ما، خيانة للقيم الإلهية والاجتماعية التي أوكلت الأمة الإسلامية مهمة الحفاظ عليها. لذلك، في إطار المسؤولية القرآنية، يمكن اعتبار الصمت المصحوب باللامبالاة أو التأييد الضمني أمام ذنوب الآخرين شكلاً من أشكال الخيانة لمبادئ الدين وسلامة المجتمع، وبالتالي فقد تم ذمه وتوبيخه بشدة. يطلب الله منا أن نكون حراس الخير والصلاح في المجتمع وألا نسمح لظلام الذنب أن يطفئ نور الإيمان والعدل. هذه ليست مجرد واجب فردي، بل هي واجب جماعي للحفاظ على كيان وحيوية المجتمع الإسلامي. هذه المشاركة في إصلاح المجتمع لا تمنع الذنب فحسب، بل تساهم أيضاً في الارتقاء الروحي والمعنوي للأفراد، مما يدل على مجتمع حيوي وديناميكي لا يبالي أفراده ببعضهم البعض. هذا الواجب، ليس فقط عاملاً رادعاً للفساد، بل هو نفسه علامة على حيوية الإيمان والمسؤولية في قلب كل مسلم حقيقي. ولهذا، كلما صمت المؤمن وتجاهل، يكون قد تنكر فعلياً لهذا العهد الإلهي العظيم.
يُروى أنه في مدينة ما، اعتادت مجموعة من الناس على عادات غير مرغوبة، وقد سمح صمت الآخرين لهذه العادات بأن تتجذر فيهم بعمق. في خضم ذلك، كان هناك حكيم يعيش في عزلته، بقلب محترق على حال الناس، يناجي الله ويسأله الهداية لهم. سأله أحد تلاميذه: "يا أستاذ، الناس يرتكبون الذنوب علانية، وأنت صامت. أليس هذا لامبالاة؟" ابتسم الحكيم وقال: "يا ولدي، صمتي ليس لامبالاة. أحياناً يجب أن تُقال الكلمات في وقتها المناسب لتكون مؤثرة. أنا في قلبي أمقت هذه المنكرات، وأدعو الله لهم بالهداية. كل ليلة، في مناجاتي مع ربي، أتذكرهم وأسأله أن يبعث من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. ففي بعض الأحيان، تُزرع بذرة التغيير في الصمت والدعاء، ثم تثمر بكلمة طيبة." فكر التلميذ أن حتى صمت الحكيم لم يكن صمت رضا، بل كان صمتاً مليئاً بالقلق والدعاء من أجل الهداية. تُظهر هذه القصة أنه حتى في الظروف التي قد لا تكون فيها القدرة على التغيير المباشر، فإن الصمت ليس بالضرورة لامبالاة حقيقية، بل يمكن أن يكون مصحوباً بالقلق والدعاء، وفي النهاية، يجب أن يؤدي إلى زرع الكلمات الطيبة لإصلاح المجتمع.