لا، المغفرة لا تعني النسيان، خاصة بالنسبة لله الذي علمه كامل. أما بالنسبة للبشر، فالمغفرة تعني التخلص من الغضب والضغينة، وليس محو الذاكرة.
إن فهم مفهوم المغفرة، سواء من جانب الله أو في العلاقات الإنسانية، هو أحد أعمق القضايا الأخلاقية والروحية وأكثرها تعقيدًا التي تناولها القرآن الكريم. ورداً على سؤال ما إذا كانت المغفرة تعني النسيان، يجب القول لا، المغفرة لا تعني النسيان، خاصة من المنظور الإلهي. فالله سبحانه وتعالى، الذي علمه لا متناهٍ وكامل، لا ينسى شيئًا أبدًا. يذكر القرآن الكريم صراحة أن الله لا يخطئ ولا ينسى. فعلى سبيل المثال، في سورة طه، الآية 52، عندما يسأل موسى (عليه السلام) عن مصير الأمم السابقة، يقول الله تعالى: "قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ ۖ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَىٰ". هذه الآية توضح بجلاء أن العلم الإلهي يشمل كل شيء، ولا يمحى شيء من ذاكرته أبدًا. لذلك، عندما يغفر الله ذنبًا، لا يعني ذلك أن هذا الذنب يمحى من علمه، بل يعني أن الله برحمته وفضله يتجاوز عن عقوبة ذلك الذنب ويُسقطه من سجل أعمال العبد. إن المغفرة الإلهية هي فعل واعٍ من الرحمة والمغفرة، وليست نسيانًا. يمكن أن تشمل هذه المغفرة ستر الذنب، ومحو آثاره السلبية، وحتى تبديل السيئات إلى حسنات للتائبين الصادقين، كما جاء في سورة الفرقان، الآية 70: "إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا". هذا التحول والتبديل يعكسان قوة الله ورحمته اللامتناهية، وهما يتجاوزان مجرد النسيان. إنها عملية إلهية يسبق فيها لطف الله وكرمه عدله، ويفتح الباب للعودة والإصلاح للعباد. فالله بعلمه الكامل يتخذ قرار المغفرة، وهذا الفعل الإرادي يضيف قيمة وعمقًا أكبر لمفهوم الغفران. فيما يتعلق بالمغفرة في العلاقات الإنسانية، فإن هذا المبدأ العام بأن المغفرة لا تعني النسيان ينطبق أيضًا، ولكن مع اختلافات ناجمة عن القيود البشرية. عندما يغفر إنسان لآخر، فإنه عادة لا يستطيع محو ذكرى الحدث الذي أدى إلى الأذى بشكل كامل من ذهنه. فذاكرة الإنسان، خاصة عند مواجهة تجارب مؤلمة، لا تعمل بطريقة تسمح بحذفها ببساطة. بل إن المغفرة في المجال الإنساني تعني التخلص من الغضب، الضغينة، المرارة، والرغبة في الانتقام. بعبارة أخرى، الغفران هو اختيار واعٍ لإنهاء الصراع الداخلي الناجم عن الأذى، وعدم السماح لذلك الحدث بتعكير صفو حياة الشخص الغافر وسلامه الداخلي. هذا لا يعني التغاضي عن حقيقة الأذى الذي وقع، بل يعني التخلي عن العبء الثقيل للمشاعر السلبية المرتبطة به. كما يشجع القرآن الكريم المؤمنين على العفو والصفح. ففي سورة النور، الآية 22، جاء: "وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ". تشير هذه الآية إلى أن عفو الناس بعضهم عن بعض يمهد الطريق للمغفرة الإلهية أيضًا، وهذا الفعل يعني قلب صفحة من الماضي وبدءًا جديدًا في العلاقة أو في حياة الشخص، بدلاً من محو الذاكرة بالكامل. تكمن الحكمة في التذكر في أن الإنسان يستطيع أن يتعلم من تجاربه ويحافظ على حدود صحية في العلاقات المستقبلية. فالنسيان الكامل للضرر يمكن أن يؤدي إلى تكراره أو التعرض مرة أخرى لمواقف مماثلة وخطيرة. لذلك، فإن المغفرة هي خيار واعٍ للتحرر من قيود الماضي والتحرك نحو مستقبل أكثر هدوءًا، مع بقاء الدروس المستفادة من التجربة. هذا الأمر يقوي الفرد ويمكّنه من النمو والتقدم دون أن يتأثر سلبًا بالماضي. في الختام، المغفرة، سواء كانت إلهية أو إنسانية، هي فعل سامٍ من الرحمة، التسامح، والتحرر، مبني على وعي كامل، ولا تعني أبدًا محو الحقيقة من صفحة الذهن أو العلم، بل تعني تغيير النظرة والسلوك تجاه تلك الحقيقة. هذه العملية لا تساعد فقط في تحسين العلاقات، بل تساهم أيضًا في الصحة الروحية والنفسية للفرد، وتهديه نحو السلام والخلاص.
في گلستان سعدي، يُروى أن ملكًا عادلاً طرد أحد وزرائه بسبب خطأ جسيم. بعد مدة، قام الوزير نفسه، بشجاعته وحكمته، بإنقاذ البلاد من خطر عظيم. أعاده الملك ومنحه منصبًا أعلى. سأل الحاشية الملك: "كيف غفرت له خطأه السابق ونسيته؟" ابتسم الملك وقال: "لم أنس خطأه، فالنسيان علامة الغفلة. ولكني أخرجت الحقد من قلبي وتجاوزت عن ماضيه، لأن فضله الحالي طغى على خطئه السابق. الغفران هو إغلاق ملف الضغينة، وليس محو الذاكرة." وهكذا، عوَّض الوزير عن ماضيه بمزيد من الولاء والجهد، ووجد الملك بحكمته قلبًا مليئًا بالسلام وبنى مملكة أكثر استقرارًا.