تنبع هذه الظاهرة من فهم خاطئ للدين؛ فالتدين الحقيقي لا يقتصر على العبادات فحسب، بل يشمل الأخلاق الفاضلة، وإظهار التدين دون أخلاق هو نفاق ورياء يذمه القرآن.
تتطلب الإجابة على هذا السؤال العميق والصعب، والذي يتناول سبب مشاهدتنا أحيانًا لأفراد يظهرون بمظهر ديني ملتزم ويؤدون العبادات بانتظام، لكنهم في المقابل يعانون من قصور أخلاقي جاد، تأملاً دقيقًا في تعاليم القرآن الكريم وفهمًا صحيحًا لجوهر الدين. يؤكد القرآن الكريم، بصفته كلام الله ودليل الحياة الشامل، على العلاقة الوثيقة بين الإيمان الحقيقي والعمل الصالح والأخلاق الحسنة. وبالتالي، فإن أي انفصال بين المظهر الديني والجوهر الأخلاقي ليس فقط يتناقض مع روح الإسلام الحقيقي، بل هو أمر نُبّه إليه وحُذر منه في آيات قرآنية متعددة. جوهر الدين: الرابطة الأزلية بين الإيمان والعبادة والأخلاق الإسلام ليس مجرد مجموعة من الطقوس والشعائر الجافة. بل هو نظام تربوي وأخلاقي شامل يهدف إلى تنشئة الإنسان الكامل ذي الإيمان الراسخ، والعبادة الخاشعة، والأخلاق الفاضلة. في المنظور القرآني، يتجذر الإيمان الحقيقي في القلب، وتظهر ثماره في سلوك الإنسان وقوله. فإذا كان هناك إيمان لا يثمر في الأخلاق والأفعال، فإن هذا الإيمان مجرد ادعاء سطحي. يقرن القرآن مرارًا وتكرارًا بين الإيمان والعمل الصالح، لأن العمل الصالح هو التعبير الملموس عن الإيمان القلبي. ولا يقتصر العمل الصالح على أداء الواجبات العبادية فحسب، بل يشمل كل سلوك حميد، والإحسان، والعدل، والصدق، والأمانة، والرحمة تجاه خلق الله. فكل من يدعي التدين، ولكنه يقصّر في التعامل مع الآخرين، وفي رعاية حقوق الناس، وفي الصدق والإنصاف، وفي الرحمة والشفقة، وفي تجنب الظلم والغيبة والبهتان، فإنه في الحقيقة لم يدرك جوهر الدين بعد. مفهوم الرياء والنفاق في القرآن من أهم أسباب هذا التناقض بين الظاهر والباطن هو قضية "الرياء" و "النفاق" التي حذر منها القرآن الكريم بشدة. يشير الرياء إلى التظاهر بالصلاح لجذب انتباه الناس واكتساب السمعة الاجتماعية، بينما النفاق يتجاوز ذلك، ويعني الازدواجية والتناقض بين الباطن والظاهر، أو الكفر الداخلي مع إظهار الإيمان الخارجي. تقدم سورة الماعون (١٠٧) مثالاً صارخًا للأفراد الذين لديهم مظهر ديني ولكنهم يفتقرون إلى الأخلاق: "فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ" (الآيات ٤-٧). تشير هذه الآيات إلى أولئك الذين يصلون ولكنهم غافلون عن صلاتهم، ويؤدونها لمجرد الرياء، ويمتنعون عن مساعدة المحتاجين. هذا يدل على أن الصلاة، بدون مراعاة بعدها الأخلاقي والاجتماعي، لا قيمة لها عند الله، بل إنها تستوجب الذم. ويوضح القرآن أيضًا في آيات متعددة صفات "المنافقين". المنافق هو من يظهر نفسه كمسلم في الظاهر، ولكنه لا يمتلك قناعة راسخة في الباطن، وتستند أعماله إلى المصالح الشخصية والدنيوية وليس على المبادئ الإلهية. في سورة النساء، الآية ١٤٢، نقرأ: "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا". توضح هذه الآية بوضوح أن حتى صلاة المنافقين لا تتم بنية خالصة، بل لمجرد التظاهر وجذب انتباه الناس، وهذا النقص في الإخلاص يؤدي إلى ضعف أخلاقي. قد يؤدي هؤلاء الأفراد العبادات ظاهريًا، لكنهم يتصرفون بشكل سيء للغاية في المعاملات، في القول والفعل، في الصدق والأمانة، وفي احترام الآخرين. سوء فهم الدين وأولوياته من الأسباب الأخرى لهذه الظاهرة هو الفهم الخاطئ لأولويات الدين. يعتقد بعض الأفراد خطأً أن التدين يقتصر على أداء طقوس معينة ومظاهر شرعية، متجاهلين بعده الأخلاقي. في حين أن التعاليم القرآنية تؤكد بوضوح على أهمية الأخلاق والفضائل الإنسانية. تقدم سورة البقرة، الآية ١٧٧، تعريفًا شاملاً لـ "البر" (الخير والإحسان) يضع الأخلاق في صميم التدين: "لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عاهدوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ". توضح هذه الآية بوضوح أن المظاهر الخارجية (مثل التوجه نحو القبلة في الصلاة) ليست وحدها معيار الخير. بدلاً من ذلك، يشمل البر الحقيقي الإيمان القلبي بأصول الدين، والإنفاق، وإقامة الصلاة والزكاة، والوفاء بالعهود، والصبر في الشدائد. الأخلاق الكريمة ليست زينة إضافية، بل هي العمود الفقري للتدين الحقيقي. تأثير البيئة والتربية والنقص البشري بالإضافة إلى سوء تفسير الدين، يمكن أن تسهم عوامل أخرى في هذه الحالة. في بعض الأحيان، ينشأ الفرد في بيئة تولى فيها المظاهر الدينية أهمية أكبر من الجوهر والأخلاق. أو في تربيته الدينية، تم التركيز على الطقوس أكثر من المفاهيم الأخلاقية. علاوة على ذلك، يجب الاعتراف بأن الإنسان كائن ناقص ولديه نفس أمّارة بالسوء. إن مجاهدة النفس وتهذيبها للوصول إلى الأخلاق الحسنة يتطلب جهدًا وجهادًا دائمين. قد لا ينجح بعض الأفراد في هذا الجهاد مع أنفسهم ويستسلمون للوساوس والرغبات النفسية، حتى لو كانوا يمتلكون مظهرًا دينيًا. يؤدي هذا العجز عن السيطرة على النفس والتغلب على الصفات السلبية إلى ظهور سلوكيات غير أخلاقية. الخاتمة: دعوة إلى تزكية النفس وأصالة العمل لا ينبغي أن تؤدي ملاحظة هذه الظاهرة إلى تشاؤمنا من أصل الدين والتدين. بل يجب أن نعتبرها جرس إنذار لأنفسنا وللآخرين بأن التدين الحقيقي أبعد من مجرد المظاهر والشعائر. هذه المشكلة تنبع من نقص في فهم وتطبيق تعاليم الدين، وليس من الدين نفسه. يعلمنا القرآن أن معيار الأفضلية والقرب من الله هو التقوى الإلهية التي تشمل العبادات الخالصة والأخلاق الفاضلة وخدمة الخلق. من لديه مظهر ديني ولكن يفتقر إلى الأخلاق، فإنه في الواقع لم يتمسك إلا بقشرة الدين ولم يصل إلى جوهره وأصله، وهو تزكية النفس والتخلق بالأخلاق الإلهية. لذلك، يجب على كل مؤمن أن يسعى ليكون، ليس فقط في أفعاله الظاهرة، بل في جوهر وجوده، انعکاسًا لرحمة الله وعدله وأخلاقه النقية، لكي يفلح في حضرة الله.
يُروى في گلستان سعدي أن رجلاً كان يبدو صالحًا، يرتدي عباءة صوفية ويحمل مسبحة، ويتردد على المسجد باستمرار مفتخراً بعبادته. كان الناس يعرفونه بزُهده وتقواه ويحترمونه. وفي أحد الأيام، في السوق، بينما كانت امرأة فقيرة تمر بجانبه، زلقت قدمها وسقط بعض الخبز اليابس من يدها. فصاح الرجل المتظاهر بالزهد عليها بغضب وخشونة، قائلاً لها: "لماذا أنت مهملة وتسببين الإزعاج؟" في تلك اللحظة نفسها، انحنى شاب ذو مظهر بسيط، لا يلفت الأنظار كثيرًا، على الفور، والتقط الخبز من الأرض، وساعد المرأة الفقيرة، وعزاها بوجه بشوش. قال سعدي: "أظهر المتنسك زهده، وأخفى الشاب المروءة. الزهد ما كان في الباطن، لا ما يظهر بالعباءة والعمامة. فالسيرة الحسنة أفضل من الصورة الجميلة، والباطن الطاهر أفضل من الظاهر المتنسك." هذه القصة تعلمنا أن المقياس الحقيقي للتقوى والتدين ليس في المظاهر والادعاءات، بل في السيرة الحسنة، والأخلاق الفاضلة، والسلوك اللطيف مع خلق الله.