القرآن نزل بخطاب "يا أيها الناس" و"رحمة للعالمين"، ورسالته وهدايته ومبادئه الأخلاقية موجهة للبشرية جمعاء. وعلى الرغم من قبول المسلمين له، فإنه دعوة إلهية للفهم والسعادة لجميع البشر.
هل نزل القرآن للمسلمين فقط؟ هذا السؤال من أكثر الأسئلة جوهرية حول طبيعة ورسالة كتاب المسلمين المقدس، وله إجابة واضحة وحاسمة داخل القرآن الكريم نفسه. قد يعتقد الكثيرون خطأً أن القرآن نزل حصريًا لمجموعة معينة من الناس، وهم أتباع الدين الإسلامي، ولكن بالرجوع إلى آياته النورانية، يثبت العكس. فالقرآن يصف نفسه مرارًا وتكرارًا بأنه "هُدًى لِّلنَّاسِ" و"رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ"، ويصف النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه "رحمة للعالمين" أي رحمة للعالمين جميعًا. هذه المصطلحات والعبارات تدل بوضوح على رسالة عالمية وشاملة، وليست مقتصرة على مجموعة أو عرق أو زمن معين، بل هي دعوة عامة إلى الحق والصراط المستقيم لجميع الباحثين. هذه الشمولية لرسالة القرآن تتجذر في الرؤية التوحيدية للإسلام التي تعتبر الله رب جميع الناس والعالمين، وليس مجرد مجموعة معينة. في العديد من الآيات، يخاطب القرآن جمهوره بعبارات مثل "يا أيها الناس" و"يا بني آدم". هذا الخطاب العام يوضح بجلاء أن رسالته موجهة إلى البشرية جمعاء، بغض النظر عن معتقداتهم أو خلفياتهم. على سبيل المثال، في سورة البقرة، الآية 185، نقرأ: "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ"؛ أي: "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان." لاحظوا أن كلمة "الناس" تعني جميع الناس، وليس فقط المسلمين. هذه الآية تحدد القرآن كمصدر عالمي للهداية، قادر على تلبية الاحتياجات الروحية والأخلاقية والاجتماعية لجميع البشر. تشمل هذه الهداية مبادئ توجيهية للحياة الفردية والجماعية، وأسسًا أخلاقية لبناء مجتمع عادل، ورؤى عميقة حول الخلق ومعنى الوجود، وكلها ضرورية لسعادة البشر الأبدية وتتجاوز أي انقسامات عرقية أو دينية. علاوة على ذلك، في سورة الأنبياء، الآية 107، يقول الله تعالى عن النبي محمد (ص): "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ"؛ أي: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين." وبما أن القرآن هو جوهر وأساس رسالة النبي، وجميع تعاليمه وإرشاداته تنبع من هذا المصدر النوراني، فإنه يتبع منطقيًا أنه إذا كان النبي رحمة للعالمين، فإن كتابه يجب أن يحمل أيضًا رسالة وهداية للعالم كله. هذه الرحمة ليست حصرية للمسلمين؛ بل يمكن لجميع الناس، بغض النظر عن دينهم أو خلفيتهم، الاستفادة من تعاليمه. هذه التعاليم تشمل المبادئ الأخلاقية، والإرشاد الحياتي، والقصص المعبرة، والحقائق الوجودية والعلمية العميقة التي تفيد رفاهية البشرية في كل زمان ومكان. هذا البعد من الرسالة النبوية والقرآنية يوضح عظمة وشيوع الرسالة الإلهية، التي لا تتقيد بأي قيود وهي مخصصة لهداية وخلاص جميع الكائنات في الكون. يصف القرآن نفسه أيضًا بأنه "مُصَدِّقٌ لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ" (مؤكد لما بين يديه من الكتاب)، مشيرًا إلى الكتب الإلهية السابقة مثل التوراة والإنجيل. هذا يعني أن القرآن لا يدعي إحضار دين جديد كليًا لا صلة له بالماضي، بل يخدم كإكمال وتصحيح للرسائل السابقة التي أرسلها الله لهداية البشرية. هذا المنظور يؤكد على استمرارية وشمولية الرسالة الإلهية، التي تنبع من مصدر واحد وموجهة للبشرية جمعاء. بتصحيح الانحرافات والتحريفات في الكتب السابقة، يقدم القرآن الحقيقة النهائية والكاملة، وهي حقيقة يمكن لكل إنسان في كل عصر فهمها وقبولها. هذا الجانب من القرآن يبرز عالميته وعمق رسالته؛ فبدلاً من الإلغاء والنفي، يقوم بالإكمال والتصحيح، مما يمهد الطريق لفهم موحد للحقيقة الإلهية. هذا النهج يشمل جميع الناس من الأديان السابقة ويدعوهم نحو النسخة الأكثر اكتمالاً ونهائية للرسالة الإلهية. الرسالة المحورية للقرآن، وهي التوحيد ووحدانية الله، هي رسالة عالمية جلبها جميع الأنبياء الإلهيين عبر التاريخ للبشرية. هذه الرسالة تشكل الأساس المشترك لجميع الأديان الإبراهيمية وتتجذر في الفطرة البشرية النقية التي تسعى إلى خالق واحد. يدعو القرآن إلى العقل والتفكير، ويحث الناس على التأمل في آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم. هذه الدعوة إلى التفكير والحكمة لا تقتصر على مجموعة معينة؛ فأي إنسان، بغض النظر عن معتقداته، يمكنه، من خلال ملاحظة علامات قدرة الله وحكمته في الكون، أن يدرك حقيقة الخلق والخالق. العدل، والإحسان، والصدق، والصبر، والإحسان إلى الوالدين، وتجنب الفساد والظلم، هي من بين المبادئ الأخلاقية التي يدعو إليها القرآن، وهذه المبادئ هي قيم عالمية مقبولة من الجميع، وضرورية لبقاء وتقدم أي مجتمع، ويمكن أن تكون أساسًا للتعايش السلمي والبناء بين جميع الشعوب والأمم. هذه التعاليم تستهدف جوهر الإنسانية، وكل إنسان، بغض النظر عن دينه أو عرقه، يمكنه الاستفادة منها. لذلك، على الرغم من أن المسلمين وحدهم يؤمنون بالقرآن ككلام الله المنزل ويقبلونه بالكامل كدليل لحياتهم، إلا أن محتواه ورسالته نزلت لهداية وتنوير جميع البشر. حتى غير المسلمين يمكنهم الاستفادة من الحكمة والقصص والقوانين الأخلاقية والتعاليم الاجتماعية للقرآن. قصص الأنبياء السابقين، والتحذيرات الإلهية بشأن مصير الأمم السابقة، وتوضيح مبادئ الخلق المنظمة، كلها دروس للبشرية لتستفيد من الماضي وتبني مستقبلًا أفضل. يقدم القرآن نفسه على أنه "ذكر" (تذكير) و"تبياناً لكل شيء" (بيان كل شيء)، يحمل رسائل ليس فقط لزمن نزوله، بل للأبد ولجميع الأجيال البشرية. هذا الكتاب دعوة إلهية لجميع الناس للمضي قدمًا نحو الحقيقة والسلام والسعادة النهائية، والانتقال من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الهداية الإلهية. هذه الدعوة تدل على عمق الرحمة الإلهية التي فتحت باب النجاة والخلاص للجميع. نقطة أخرى مهمة هي أن القرآن معجزة خالدة، بلاغته وجماله الفائقين، منذ زمن نزوله وحتى الآن، لم يتمكن أحد من مجاراتهما، ولا حتى بإنتاج سورة واحدة تشبهه. هذا التحدي (التحدي القرآني)، موجه أيضًا ليس فقط للمسلمين، بل لجميع البشر، يدعوهم إلى محاولة إنتاج عمل مماثل إذا كانوا يشكون في أصله الإلهي. يظهر هذا التحدي ثقة القرآن المطلقة في مصدره الإلهي وقناعته بأن رسالته خالدة وعابرة للإنسانية، ولا يمكن لأي كائن مخلوق أن يكررها. في النهاية، القرآن نور أرسله الله لهداية البشرية جمعاء، وكل من يفتح عيني قلبه يمكنه الاستفادة من هذا النور، بغض النظر عن مكان إقامته أو دينه. القرآن دليل شامل وكامل للوصول إلى الكمال البشري والقرب الإلهي، وهذا الهدف ليس حصرًا على المسلمين بل هو مراد الله لجميع عباده في أرجاء المعمورة. هذا الكتاب يوفر طريقاً لفهم الغرض السامي من الخلق وتحقيق النعيم الأبدي، وهو طريق مفتوح للجميع.
يُروى أن رجلاً قال لحكيم ذات يوم: "أيها الحكيم، كلامك كماء زمزم، ولا يشرب منه إلا العطاشى الخاصون." فابتسم الحكيم وقال: "لا أيها النبيل! ماء زمزم لكل عطشان، أيّاً كان ومن أي أرض أتى. وكذلك كلمة الحق؛ مثل مطر رحمة الله، ينزل على الجميع—على قلب الصحراء المتواضع وعلى جنة الروح المشتاقة—حتى يرتوي من يستحق. ورغم أن مجموعة معينة قد تقدر المطر وتزرع بذور الإيمان في قلوبها، فإن المطر للأرض لا لبذرة معينة. فاعلم أن كلمة الحق دعوة وهداية لكل قلب مستعد لقبولها، وليس فقط لمجموعة عرفتها مسبقًا." وهكذا، أوضح الحكيم له اتساع وعالمية الحقيقة، مبيناً أن نور الهداية الإلهية لا يعرف حدوداً.