لا توجد سورة قرآنية مخصصة حصراً للرحمة والمغفرة؛ بل إن هاتين الصفتين الإلهيتين الأساسيتين تتجلّيان في جميع آيات القرآن الكريم، داعيةً إلى التوبة والرجاء في رحمة الله الواسعة.
إن السؤال عن السور القرآنية المخصصة للرحمة والمغفرة الإلهية هو سؤال عميق وهام يلامس أحد أهم جوانب علاقة الإنسان بربه: أمل العبد في عفو الله اللامحدود ورحمته الواسعة. ومع ذلك، يجب أن نؤكد أنه لا توجد سورة محددة في القرآن الكريم "مخصصة" حصرياً للرحمة أو "مخصصة" حصرياً للمغفرة. بل إن هاتين الصفتين الإلهيتين، وهما "الرحمن" (الواسع الرحمة، الذي تشمل رحمته كل الخلق) و"الرحيم" (الرحيم بالمؤمنين خصوصاً)، وكذلك صفات "الغفور" (كثير المغفرة) و"الغفار" (مغفرة الذنوب بكثرة) و"التواب" (الذي يقبل التوبة)، ليست مقتصرة على سورة أو بضع سور، بل هي منسوجة في نسيج الكلمة الإلهية بأكملها. فالقرآن، من بدايته إلى نهايته، هو كتاب كله رحمة وهداية ودعوة إلى المغفرة. إن الهدف النهائي للقرآن هو هداية الإنسان نحو السعادة في الدنيا والآخرة، وهذه السعادة لا يمكن تصورها دون فهم الرحمة والمغفرة الإلهية والأمل فيهما. فالقرآن يدعو الإنسان باستمرار لتذكر هذه الحقيقة بأن الله ليس بظلام للعبيد، بل هو في أوج الكرم والعطاء، وقد ترك باب العودة مفتوحاً لجميع عباده حتى آخر لحظة في حياتهم. هذه الرحمة والمغفرة لا تشمل فقط غفران الذنوب، بل تشمل الرزق والعافية والهداية وجميع النعم التي يمنحها الله لعباده. أولى دلائل هذا الشمولية تتجلى في افتتاح كل سورة (عدا سورة التوبة) بـ "بسم الله الرحمن الرحيم". هذه العبارة الموجزة ولكنها عميقة المعنى، بمثابة مفتاح يفتح كل باب من أبواب السور بأسماء الله المتجلية بالرحمة، مذكّرة الإنسان بأن كل ما ورد في هذا الكتاب ينبع من مصدر يفيض بالرحمة واللطف. هذا الافتتاح المتكرر بحد ذاته يؤكد أن الرحمة والمغفرة ليستا مجرد صفتين فرعيتين، بل هما جوهر علاقة الله بعباده. هذه الرسالة تدعو القلوب اليائسة إلى الأمل، والخطاة إلى التوبة. إن هذا التكرار هو رسالة دائمة للإنسان ليدرك أن رحمة الله تحيط به، وأن كل باب مغلق في الحياة يمكن فتحه بمفتاح رحمة الله. فبالاعتماد على هذه الصفة، يمكن للإنسان في أي وضع، حتى في أوج اليأس والقنوط، أن يفكر في العودة وإصلاح نفسه، لأن الله غفور رحيم. القرآن الكريم، في آيات متعددة وعبر سور مختلفة، يشير مباشرة وغير مباشرة إلى رحمة الله ومغفرته. على سبيل المثال، سورة **الفاتحة**، التي تُعرف بـ "أم الكتاب" ومفتاح القرآن، بعد الثناء على الله، تقدمه بصفة "الرحمن الرحيم". هذه المقدمة تمهد لفهم أن رب العالمين، في أوج قدرته وحكمته، يتعامل مع عباده برحمة لا نهاية لها. هذه السورة القصيرة، هي خلاصة رسالة القرآن: الثناء على الله الرحمن الرحيم وطلب الهداية منه، وهو بحد ذاته رمز للرحمة والمغفرة. هذه الافتتاحية تحمل في طياتها رسالة مفادها أن أساس علاقتنا بالله يقوم على رحمته ولطفه، وليس فقط على العدل والمحاسبة الصارمة. وهذا المفهوم حيوي جداً لخلق الطمأنينة في قلب الإنسان وتشجيعه على التواصل المستمر مع الخالق. من أبرز الآيات في مجال المغفرة وعدم اليأس من رحمة الله، الآية 53 من سورة **الزمر**: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (قل: يا عبادي الذين أفرطوا في معاصيهم لا تيأسوا من رحمة الله؛ إن الله يغفر الذنوب جميعاً؛ إنه هو الغفور الرحيم). هذه الآية منارة هداية لكل من يظن، بسبب كثرة ذنوبه، أنه لا يستحق العفو. في هذه الآية، يخاطب الله عباده بلهجة حانية تحت عنوان "عبادي"، ويؤكد لهم أن حتى أعظم الذنوب سيُغفر لهم بالتوبة الصادقة والرجوع الحقيقي إليه. هذه الآية وحدها كافية لملء قلب أي خاطئ بالأمل، وإعادته إلى رحمة الله، وتوضح أنه لا ذنب عظيماً أمام رحمة الله الواسعة، ما لم يبتعد الإنسان عنها بنفسه ويتكبر. سورة **النساء** أيضاً تتناول موضوع المغفرة والرحمة في عدة آيات. الآية 110 من هذه السورة تقول: "وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا" (ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً). هذه الآية تؤكد أن باب التوبة والاستغفار مفتوح دائماً، وأن الله مستعد لقبول العباد الذين يعودون إليه بنية صادقة وتوبة نصوح. هذه الآية تحدد بوضوح أن شرط نيل الرحمة والمغفرة هو طلبها من الله تعالى، وهي تشجيع لكل من ارتكب خطأ بأن يسارع إلى مغفرة الله، عالماً أن طريق العودة مفتوح دائماً. كما ورد في سورة **هود** الآية 90: "وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ" (واطلبوا مغفرة ربكم ثم ارجعوا إليه بالتوبة؛ إن ربي رحيم بعباده كثير المحبة لهم). هذه الآية أيضاً تشدد على أهمية الاستغفار والتوبة، وتصف الله بصفات "رحيم" و"ودود" (كثير الود والحب)، مما يدل على عمق محبته ولطفه تجاه عباده التائبين. إن صفة "الودود" تظهر أن علاقة الله بعباده لا تقتصر على الأمر والطاعة، بل تقوم على الحب المتبادل أيضاً، خاصة لمن يعود إليه ويتوب. سورة **البقرة** أيضاً من السور التي تتجلى فيها مفاهيم الرحمة والمغفرة بوضوح. فمثلاً، في الآية 222 نقرأ: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ" (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين). هذه الآية تبين أن الله لا يغفر ذنوب التائبين فحسب، بل يحب فعل التوبة ذاته وطهارة الروح، وهذا بحد ذاته قمة في الرحمة والتشجيع على العودة إليه. إن هذا الحب الإلهي تجاه التائبين هو قوة دافعة للإنسان ليعود إلى الله باستمرار، بالرغم من نقائصه وضعفه، وألا يفقد الأمل في مغفرته. هذه الآيات تعلمنا أن الرحمة الإلهية ليست رحمة جافة ولا روح فيها، بل هي رحمة ممزوجة بالمحبة والود. لذلك، يمكن القول إن كل سورة من سور القرآن، بطريقة أو بأخرى، تفتح نافذة نحو الرحمة والمغفرة الإلهية. فبعض السور قد تنقل رسائل الرحمة من خلال سرد قصص الأنبياء والأمم السابقة، مبينة نجاة المؤمنين وهلاك الظالمين. وسور أخرى قد تمهد الطريق للتقرب وطهارة الروح من خلال تشريع الأحكام، مما يؤدي في النهاية إلى المغفرة الإلهية. هذا النهج الشامل يدل على أن مفهوم الرحمة والمغفرة في الإسلام لا يقتصر على غفران الذنوب الماضية، بل يشمل فرصاً جديدة للنمو والهداية وحياة أفضل أيضاً. إن كل أمر من الله، وكل نصيحة من القرآن، وكل قصة من الأنبياء، تهدف إلى هداية الإنسان نحو الفضيلة وإبعاده عن الذنب، وهذا بحد ذاته أوج رحمة الخالق ولطفه. إجمالاً، القرآن الكريم بأكمله، وليس فقط بضع سور محددة، هو تجلٍّ لرحمة الله ومغفرته، وفي كل ركن منه، يتردد نداء "لا تقنطوا" و"فاغفر لنا"، داعياً العباد إلى بحر المغفرة الإلهي اللامحدود. هذه الشمولية بحد ذاتها تدل على سعة وعمق الصفات الإلهية التي لا تقتصر على بضع آيات أو سور، بل تشمل جميع الوجود وتقدم لكل إنسان يعود إليه فرصة ثانية. وهذا يمنح الإنسان الطمأنينة بأن حتى في أحلك لحظات الذنب واليأس، هناك نور من رحمة الله ينتظره دائماً ليريه طريق العودة.
في قديم الزمان، سأل ملكٌ حكيماً: "يا أيها الحكيم، في رأيك، أي الصفات أجمل: الكرم أم الرحمة؟" فأجاب الحكيم بابتسامة دافئة: "أيها الملك الصالح، بلا شك الرحمة! لأن الكرم والعطاء تمنحه لمن يستحقه ويقدره، أما الرحمة فتهبها للمستحق وغير المستحق. انظر كيف أن الله قد بسط مائدة رحمته لجميع عباده، سواء كانوا أبراراً أو آثمين، ولا يغلق باب التوبة والمغفرة أبداً." ابتهج الملك بهذا القول وفهم مدى اتساع وشمولية الرحمة الإلهية، فامتلأ قلبه بالأمل في عفو الله سبحانه وتعالى.