نسيان الله، حتى في العبادة، غالبًا ما ينبع من الغفلة والتعلق بالدنيا ووساوس الشيطان. التغلب على ذلك يتطلب الذكر الدائم، والتدبر في القرآن، وتطهير القلب.
نسيان الله، حتى في لحظات العبادة، هو تجربة يواجهها الكثيرون في رحلتهم الروحية. هذا سؤال عميق وجوهري، يمكن تتبع جذوره في تعاليم القرآن الكريم وفهمنا لطبيعة الإنسان والعوامل المؤثرة على القلب والعقل. يشير القرآن الكريم بوضوح إلى هذه الظاهرة ويقدم حلولاً لمواجهتها. غالبًا ما يكون نسيان الله في العبادة أو في الحياة اليومية نتيجة للغفلة. الغفلة هي حالة من عدم الوعي ونقص الانتباه القلبي الذي يمنع الإنسان من ذكر الله والهدف الرئيسي من خلقه. وقد حذر الله بشدة في القرآن من الغافلين ونبه إلى عواقب ذلك. في سورة الأعراف، الآية 179، يقول تعالى: «وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ» (ولقد خلقنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس، لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها؛ أولئك كالأنعام بل هم أضل؛ أولئك هم الغافلون). توضح هذه الآية بوضوح أن عدم الاستخدام الصحيح لأدوات الإدراك (القلب، العين، الأذن) لفهم الآيات الإلهية وحقيقة الوجود يؤدي إلى الغفلة ويبعد الإنسان عن طريق الهداية. أحد الأسباب الرئيسية للغفلة ونسيان الله هو التعلق المفرط بالدنيا وزخارفها الزائلة. يحذر القرآن الكريم مرارًا الإنسان من خداع الحياة الدنيا والتنافس على جمع المال والجاه، ويؤكد على أهمية الآخرة. في سورة الحديد، الآية 20، نقرأ: «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ» (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد، كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً، وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور). توضح هذه الآية أن الانشغال المفرط بأمور الدنيا يمنع حضور القلب وذكر الله، بل ويحوّل العبادة إلى حركة لا روح فيها وعادة مجردة. عامل آخر يشير إليه القرآن هو وسوسة الشيطان. الشيطان دائمًا يتربص بالإنسان ليجعله ينسى الله ويدفعه نحو الذنوب والنسيان. في سورة الناس، يعلمنا الله أن نلجأ إليه من وسوسة الشيطان الخناس. يسعى الشيطان لتشتيت ذهن الإنسان حتى أثناء العبادة، ويزرع الأفكار التافهة فيه ليقضي على إخلاصه وانتباهه القلبي. للتخلص من هذه الوساوس، يُنصح بالذكر الدائم لله، واللجوء إليه، وتلاوة القرآن. الحل الرئيسي للتغلب على النسيان وتحقيق حضور القلب هو «الذكر» أو ذكر الله الدائم. يؤكد القرآن الكريم في آيات عديدة على أهمية الذكر ويعتبره مصدر طمأنينة للقلوب. في سورة الرعد، الآية 28، يقول: «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله؛ ألا بذكر الله تطمئن القلوب). الذكر لا يعني مجرد تكرار الألفاظ، بل هو حضور قلبي واهتمام بعظمة الله وقدرته في جميع لحظات الحياة. هذا الحضور القلبي هو الذي يحول العبادة من مجرد فعل جسدي إلى تجربة روحية عميقة. إن السعي لفهم معاني الصلاة والقرآن والدعاء، والتأمل في عظمة الخلق، والتذكير الدائم بالموت والآخرة، كل ذلك يساعد على تقوية حضور القلب. علاوة على ذلك، تلعب تلاوة القرآن الكريم وتدبره دورًا هامًا في تذكيرنا بالله وتبديد الغفلة. القرآن هو كلام الله الذي ينير القلوب ويمنح البصيرة. كلما ازداد ارتباط الإنسان بالقرآن وتدبر آياته، زاد إدراكه لعظمة الله وهدف الحياة، وابتعد عنه النسيان. كما أن تطهير القلب من الذنوب والأهواء النفسية يعد شرطًا أساسيًا لحضور القلب. تسقط الذنوب كحجاب على القلب وتحرم الإنسان من النور الإلهي. التوبة والاستغفار المستمر هما وسيلة لإزالة هذه الصدأ وإضاءة مرآة القلب. في الختام، يمكن القول إن نسيان الله حتى في العبادة هو إنذار روحي. إنه علامة على أننا بحاجة إلى إعادة تقييم حياتنا، وتقليل تعلقنا بالدنيا، وتقوية الذكر والاتصال بالقرآن، ومكافحة وسوسة الشيطان بنشاط. هذا طريق مستمر ويتطلب جهداً متواصلاً، ولكن نتيجته هي السكينة القلبية والرضا الإلهي. في كل مرة نختبر هذا النسيان، تكون فرصة لنا لنتذكر الله مرة أخرى ونسعى للعودة إليه بكل وجودنا. هذا الاستمرار في الذكر، ليس فقط في العبادة، بل في جميع جوانب الحياة، سيغير نوعية وجودنا الروحي ويقربنا من هدف خلقنا الأسمى، وهو القرب من الله. لا ننسى أن الله رحيم ودائمًا يدعو عباده إليه، حتى لو تعرضوا أحيانًا للعثرات والنسيان في هذا الطريق. المهم هو أن نتعلم من هذا النسيان ونعود إلى ذكره ومحبته بعزيمة أقوى.
في قديم الزمان، كان هناك ناسك عابد أمضى سنوات طويلة في العبادة. كان يصلي كل يوم ويذكر الله. ولكن في بعض الأحيان، في ذروة الصلاة والدعاء، كان ذهنه فجأة يحلق إلى السوق المزدحم، أو مزرعته الخضراء. كان قلبه ينقبض ويقول لنفسه: «يا قلبي الخائن، كيف يتسنى لك أن تفكر في الدنيا حتى في حضرة خالقك؟» في إحدى الليالي، رأى في المنام رجلاً نورانياً يقول له: «يا عبد الله، ذكر اللسان حسن، ولكن ذكر القلب أفضل. عندما يكون قلبك ملوثاً بالتعلقات الدنيوية، حتى أفضل العبادات تكون كالمياه التي تُصب على أرض مالحة. حاول أن تنظف مرآة قلبك من صدأ الغفلة حتى ينعكس فيها النور الإلهي.» استيقظ الزاهد ودموعه تنهمر. ومنذ ذلك اليوم، قلل من المظاهر الخارجية واهتم أكثر بكيانه الداخلي وصفاء قلبه. أدرك أن حضور القلب في العبادة هو جوهرة ثمينة، تُنال بصفاء النية والابتعاد عن الوساوس، ومكافأتها هي سلام لا يمكن العثور عليه في أي سوق أو مزرعة.