الصمت أمام الحق غالبًا ما ينبع من الخوف، ضعف الإيمان، أو المصلحة الخاطئة. يأمرنا القرآن بقول الحق بالتوكل على الله، وتقوية الإيمان، واكتساب البصيرة، وبالحكمة، فهو واجب حيوي للفرد والمجتمع.
السؤال: «لماذا أصمت أحيانًا أمام الحق؟» هو أحد أعمق الأسئلة وأكثرها تحديًا التي يمكن أن يطرحها الإنسان على نفسه. هذا السؤال لا يتعلق فقط بالأبعاد النفسية الفردية، بل له جذور اجتماعية وإيمانية أيضًا. الصمت أمام الحقيقة، وإن بدا في الوهلة الأولى وسيلة لتجنب الصراع أو الحفاظ على الهدوء الظاهري، إلا أنه يمكن أن تكون له عواقب وخيمة على الفرد والمجتمع على المدى الطويل. القرآن الكريم، بصفته كتاب هداية، تناول بشكل واسع أهمية قول الحق، ومسؤولية الإنسان تجاهه، وعواقب كتمان الحق أو الصمت أمام الباطل. هذه التوجيهات الإلهية تقدم بصيرة عميقة لفهم هذا التحدي البشري والتغلب عليه. من أهم المبادئ التي يؤكد عليها القرآن الكريم مفهوم «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». هذا المبدأ ليس مجرد توصية أخلاقية، بل هو واجب حيوي وجماعي ملقى على عاتق الأمة الإسلامية. يقول الله تعالى في سورة آل عمران، الآية 104: «وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون). هذه الآية تبين بوضوح أن إبلاغ الحق ومواجهة الباطل هو سبيل الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة. الصمت أمام الحق هو نوع من الإهمال لهذا الواجب الإلهي، وفي النهاية، يعني التقصير في حق المجتمع وحق أنفسنا. هذا الواجب لا يشمل فقط التعبير الصريح عن الحق، بل يشمل أيضًا عدم التعاون مع الباطل وعدم تأييده بالصمت. كما يؤكد القرآن على «القول السديد» أو القول الصواب والمستقيم، مما يعني أن الحق يجب أن يُقال ليس فقط بدقة ولكن أيضًا بحزم ووضوح. هناك عدة أسباب للصمت أمام الحق، وقد أُشير إلى العديد منها في التعاليم القرآنية: **1. الخوف من الناس بدلًا من الخوف من الله:** السبب الأكثر شيوعًا للصمت هو الخوف من ردود الأفعال السلبية من الآخرين، بما في ذلك الخوف من السخرية، أو النبذ الاجتماعي، أو فقدان المكانة الاجتماعية أو الاقتصادية، أو حتى الأذى الجسدي. القرآن يذم هذا النوع من الخوف بشدة ويعتبر المؤمنين الحقيقيين هم الذين يخشون الله وحده لا عباده. في سورة المائدة، الآية 54، يصف الله أولئك الذين يجاهدون في سبيله: «وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» (ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم). هذه الآية تشير بوضوح إلى أن المؤمن الحقيقي هو من لا يخشى لوم لائم في إبلاغ الحق. فالخوف من الحكم، والرغبة في القبول الاجتماعي، وعدم القدرة على مقاومة ضغوط الجماعة، كلها يمكن أن تؤدي إلى الصمت. هذا الخوف ينبع من ضعف التوكل على الله وعدم الفهم الكامل لقوته ودعمه الإلهي. **2. النفاق وضعف الإيمان:** أحيانًا، ينبع الصمت أمام الحق من ضعف الإيمان أو حتى النفاق. قد يؤمن الشخص ذو الإيمان الضعيف بالحق، لكنه غير مستعد لدفع ثمن التعبير عنه. المنافق هو من لا يتطابق ظاهره مع باطنه، وغالبًا ما يتجنب قول الحق للحفاظ على مصالحه الشخصية أو مكانته. في سورة البقرة، الآية 42، ينهى الله صراحة عن كتمان الحق: «وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ» (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون). كتمان الحق يمكن أن يكون بالكذب أو بالصمت وعدم التعبير عنه. هذا الضعف الإيماني يؤدي إلى إعطاء الأولوية للقيم الدنيوية الزائلة على القيم الأبدية والإلهية. **3. المصالح الخاطئة:** يصمت بعض الأفراد بحجة «المصلحة». ورغم أن المصلحة أمر عقلاني وحكيم في مكانه الصحيح، إلا أنها ليست كذلك عندما تؤدي إلى كتمان الحقيقة أو ترويج الباطل. فالمصلحة الحقيقية هي التي تؤدي إلى خير الفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة، لا التي ينتج عنها فقدان العدالة، أو حقوق الآخرين، أو إضعاف القيم الإلهية. الصمت بدافع مصلحة خاطئة هو غالبًا شكل من أشكال خداع الذات لتجنب المسؤولية. **4. الجهل وعدم المعرفة الكافية:** في بعض الحالات، قد يكون الصمت ناتجًا عن عدم اليقين بالحقيقة أو الجهل المحض. إذا لم يكن الفرد على دراية كاملة بحقيقة أمر ما أو يفتقر إلى اليقين الكافي بشأنه، فمن الطبيعي أن يتردد في التعبير عنه. وهذا يؤكد على أهمية اكتساب العلم والبصيرة الدينية، حتى يتمكن الإنسان من التمييز بين الحق والباطل بوعي كامل واتخاذ الموقف الصحيح، ومقاومة الشكوك الشيطانية. **عواقب الصمت أمام الحق:** الصمت المستمر أمام الحقيقة له عواقب وخيمة. فهذا الصمت لا يساهم فقط في انتشار الفساد والباطل في المجتمع، بل يضعف تدريجيًا إيمان الفرد وثقته بنفسه. فالمجتمع الذي يخشى أفراده قول الحق والعدل سيتجه نحو اللامبالاة والسلبية، مما يؤدي في النهاية إلى انهيار القيم الأخلاقية والروحية. ويشير القرآن الكريم إلى عقاب أقوام عوقبوا بسبب صمتهم أمام الفساد. **حلول قرآنية للتغلب على الصمت:** للتغلب على هذا الميل إلى الصمت، يقدم القرآن حلولًا عملية: * **تعزيز التوكل والإيمان بالله:** إن اليقين الراسخ بأن الله هو الرزاق، والحافظ، والقوة المطلقة الوحيدة، يزيل الخوف من غيره، ويوفر الشجاعة اللازمة للثبات. هذا التوكل هو مصدر السكينة والقوة القلبية. * **اليقين بالنصر الإلهي:** يدعو القرآن المؤمنين إلى الصبر والثبات ويعدهم بالنصر. ففي سورة آل عمران، الآية 160، يقول تعالى: «إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ۖ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ ۗ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» (إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون). هذا الوعد يوفر الأمل والدافع اللازمين لمواجهة التحديات. * **اكتساب العلم والبصيرة:** كلما ازداد الإنسان معرفة بحقيقة أمر ما وازداد يقينه القلبي به، ازدادت شجاعته في التعبير عنه. فدراسة القرآن وسيرة الأنبياء والأئمة تزيد من بصيرة الإنسان. * **استخدام الحكمة والموعظة الحسنة:** يؤكد القرآن أيضًا على الأسلوب الذي يُنقل به الحق. ففي سورة النحل، الآية 125، جاء: «ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن). أحيانًا يكون الصمت بسبب عدم معرفة الطريقة الصحيحة والفعالة للتعبير، وليس بسبب عدم فهم الحقيقة نفسها. يمكن أن يكون تعلم مهارات التواصل وفهم السياقات التي يجب فيها قول الحق مفيدًا جدًا. * **الاقتداء بالأنبياء والأولياء:** حياة الأنبياء والأئمة المعصومين (عليهم السلام) مليئة بأمثلة الشجاعة والثبات في مواجهة الباطل والتعبير عن الحق في أصعب الظروف. فالتأمل في سيرتهم يمكن أن يكون مصدر إلهام ويقوي عزيمتنا. في الختام، غالبًا ما ينبع الصمت أمام الحق من المخاوف الداخلية، وضعف الإيمان، والاعتبارات الدنيوية للمصلحة. يدعونا القرآن الكريم إلى كسر هذا الصمت، بالتوكل على الله، وتقوية إيماننا، واكتساب البصيرة، واستخدام الحكمة في التعبير عن الحقيقة. هذا الواجب ليس ضروريًا فقط لرفاهية المجتمع، بل هو حيوي أيضًا لنمو الفرد الروحي وكماله. فكل كلمة حق تُقال بشجاعة وحكمة هي نور يبدد ظلام الجهل والباطل، ويمهد الطريق للهداية والخلاص. لذا، يجب أن نكون صوت الحق بقلب واثق ولسان مبين.
روي أن أنوشيروان العادل، الملك العظيم، سأل وزيره الحكيم يومًا: «من بين كل الأعمال الصالحة، أيها هو الأفضل؟» فكل وزير، حرصًا على إرضاء الملك، تحدث عن الأعمال العظيمة والانتصارات. لكن رجلًا حكيمًا كان يجلس في المجلس وصامتًا حتى تلك اللحظة، تقدم وقال بشجاعة: «أيها الملك! أفضل الأعمال هو ألا تصمت أمام الحق، حتى لو كانت الكلمة مرة وغير مستساغة لمن يسمعها، وأن تخاف الله أكثر من أي عبد.» في البداية، لم تعجب الملك كلماته الجريئة، ولكن عندما تحدث الرجل الحكيم بهدوء واستدلال، تأمل أنوشيروان. لاحقًا، في موقف صعب حيث كانت الحقيقة ضرورية وصمت الجميع خوفًا من الملك، وحده ذلك الرجل الحكيم نطق بالحقيقة، ونجا الملك بفضل هذه الكلمة الصادقة. في ذلك اليوم، أدرك الملك أن الصمت أمام الباطل، وإن جلب راحة ظاهرية، إلا أنه يؤدي في النهاية إلى الهلاك، وأن صوت الحق وحده هو الذي يهدي، حتى لو كان غير مستساغ في البداية.