يعبر القرآن عن بعض الوعود الإلهية بشكل مشروط للتأكيد على حرية الإرادة البشرية، والعدالة الإلهية، والتحفيز على العمل، ودور الابتلاء في الحياة. كما يفتح هذا الأسلوب باب التوبة، ويعلم الإنسان أن نتائج أفعاله هي انعكاس لاختياراته.
القرآن الكريم، كلام الله الخالد، بأسلوبه الحكيم والشامل، لا يتحدث فقط عن ذات الباري سبحانه وتعالى، والخلق، والمعاد، بل يتناول أيضًا تفاصيل وتعقيدات الحياة البشرية وعلاقتها بالمشيئة الإلهية. إحدى السمات البارزة لأسلوب التعبير القرآني هي طرح العديد من الوعود الإلهية بشكل مشروط. هذا الشرط ليس فقط دليلاً على نظام إلهي عادل وحكيم، بل يحمل دروسًا وحكمًا عميقة للبشر، يمكن أن توجه سلوكهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة إذا تم التفكير فيها بعناية. هناك أسباب متعددة لهذا النهج القرآني، سنقوم بتفصيلها فيما يلي. السبب الأول، وربما الأهم، هو **التأكيد على مبدأ الاختيار وحرية الإرادة البشرية**. لقد خلق الله تعالى الإنسان كائناً حراً، لديه القدرة على الاختيار بين الخير والشر، الطاعة والمعصية. تعكس الوعود المشروطة هذه الحقيقة بأفضل طريقة، وهي أن المكافآت وعواقب الأفعال ترتبط ارتباطًا مباشرًا باختيارات الإنسان وأعماله. لو كانت الوعود تُذكر بدون أي قيود أو شروط، فإن مفهوم الاختيار والمسؤولية البشرية كان سيُطرح تحت السؤال، وستتحول حياة الإنسان إلى جبر مطلق. على سبيل المثال، وعد الجنة مشروط بالإيمان والعمل الصالح، ووعد العذاب مشروط بالكفر والفساد. هذا الأمر يفتح المجال للإنسان ليختار مسار حياته وهو على دراية بعواقب أفعاله. هذا الشرط يذكر الإنسان بأن مصيره بين يديه، وأن نتائج حياته هي انعكاس لأعماله ونواياه، وليس مجرد قدر بلا سبب أو حكمة. هذا النظام لا يشهد فقط على العدل الإلهي بل يهيئ الأرضية لنمو الإنسان وتكامله. السبب الثاني هو **تجسيد العدالة الإلهية المطلقة**. الله عادل ولا يظلم أحدًا. المكافأة والعقاب مبنيان على أعمال البشر، ولا يوجد مكافأة بدون عمل ولا عقاب بدون ارتكاب ذنب. الوعود المشروطة هي تجلي لهذه العدالة؛ لأنها تبين بوضوح أن الفضل والرحمة الإلهية، أو الغضب والانتقام، لا تُمنح بشكل عشوائي، بل تستند إلى معايير وقواعد محددة. هذه المعايير هي أعمال الإنسان ونواياه وحالات قلبه. تخيل لو أن الله وعد الجميع بالجنة بدون قيد أو شرط؛ في هذه الحالة، كان سيتم التشكيك في عدله وحكمته، لأنه لم يميز بين المحسن والمسيء. لذلك، فإن شرطية الوعود تنبع من أسس العدل الإلهي وتؤكد للإنسان أن كل ذرة من عمله الصالح أو السيء لها حساب وميزان. الحكمة الثالثة هي **خلق الدافع للحركة والجهد**. لو أن جميع الوعود الإلهية، سواء كانت مكافآت دنيوية أو أخروية، قد ذُكرت بدون قيد أو شرط وبشكل مضمون للجميع، فأي دافع سيبقى للقيام بالأعمال الصالحة، والجهاد في سبيل الله، والابتعاد عن الذنوب، وممارسة التقوى؟ الإنسان بطبعه يسعى للراحة والمنفعة، ولو علم أنه سيصل إلى النتيجة المرجوة بدون أي جهد، فإنه سيتوقف عن السعي. الوعود المشروطة تدفع الإنسان للتحرك والعمل وتجعله يفهم أنه للحصول على الألطاف الإلهية، يجب عليه أن يبذل جهدًا من جانبه. هذا يساهم بشكل كبير في النمو الروحي للإنسان ويخرجه من حالة الركود واللامبالاة. على سبيل المثال، وعد النصر الإلهي مشروط بنصرة دين الله. هذا الشرط يحفز المؤمنين على الجهاد والعمل في سبيل الله، ويبقيهم نشطين وفاعلين في تحقيق الأهداف الإلهية. السبب الرابع هو **الاختبار والامتحان الإلهي**. الحياة الدنيا هي ساحة للاختبار والابتلاء. يختبر الله البشر بتقلبات الحياة، الصعوبات واليسر، النعم والبلايا لقياس مستوى إيمانهم، وصبرهم، وشكرهم، وثباتهم. الوعود المشروطة جزء من هذا النظام الاختباري. عندما يعد الله بأنه "لئن شكرتم لأزيدنكم" (إبراهيم: 7)، فهذا اختبار ليرى من هو الشاكر حقاً ومن يكفر بالنعمة. أو عندما يعد بالنصر مشروطاً بالصبر والتقوى، فهذا اختبار لقياس مدى ثبات المؤمنين والتزامهم. هذا الشرط يؤدي إلى التمييز بين المؤمنين الحقيقيين ومدعي الإيمان، ويحدد في النهاية المستحقين الحقيقيين للمكافآت والألطاف الإلهية. الجانب الخامس هو **تعليم الإنسان وتنميته**. القرآن كتاب هداية وتربية. تعلم الوعود المشروطة الإنسان أن هناك علاقة عميقة بين السبب والنتيجة، والفعل والعاقبة. هذه العلاقة لا تنطبق فقط على العالم المادي، بل تسود أيضًا في العالم الروحي والمعنوي. العمل الصالح يؤدي إلى نتائج صالحة، والعمل السيئ يؤدي إلى عواقب وخيمة. هذا الأسلوب من التعبير يمنح الإنسان فهمًا أعمق للقوانين التي تحكم الوجود ويهديه نحو تحسين سلوكه وتصحيح نواياه. تساعد هذه التربية في تشكيل شخصية مستقلة، ومسؤولة، ومفكرة في الإنسان، وتمنعه من السلبية وانتظار المعجزات دون بذل جهد. الحكمة السادسة هي **فتح باب التوبة والعودة**. حتى في الحالات التي يتم فيها ذكر وعد العذاب أو الحرمان من النعم بشكل مشروط (على سبيل المثال، إذا ارتكب شخص ذنبًا)، فإن هذه المشروطية تمنح الإنسان الفرصة لتغيير الوضع من خلال التوبة والعودة، وبالتالي الهروب من الوعد السيء. هذا يدل على سعة رحمة الله الذي لا يغلق باب الأمل في وجه العباد حتى بعد أفعالهم السيئة، بل يمنحهم فرصة للتعويض. تعني شرطية الوعود أن العلاقة بين الإنسان والله هي علاقة ديناميكية ومتغيرة، وأن الإنسان بتغيير نفسه يمكنه تغيير مصيره أيضًا. في الختام، يمكن القول أن شرطية الوعود الإلهية في القرآن ليست نقصًا في كلام الله، بل هي قمة الكمال والحكمة الإلهية. هذا الأسلوب في التعبير عادل، ومحفز، وتربوي، ومتوافق مع طبيعة الإنسان ذو الإرادة الحرة. ترسم هذه الوعود خريطة طريق للبشر ليسيروا على درب السعادة، مدركين نتائج أعمالهم، وليتجهوا نحو الكمال والقرب الإلهي. كل شرط هو في الواقع دعوة للتأمل، والعمل، وتصحيح الذات، ونتيجته ستتجلى ليس فقط في هذه الدنيا، بل في الدار الباقية أيضًا.
يُحكى أن حكيماً عظيماً كان يوماً يعظ تلاميذه قائلاً: «يا أبنائي، حقاً، كل بذرة تزرعونها، منها ستحصدون الثمرة. إن زرعتم بذرة الخير، فثمرتها الراحة والبركة، وإن نثرتم بذرة الشر، فلن تحصدوا إلا الحسرة والندم.» فسأل أحد التلاميذ: «يا معلم، أليس صحيحاً أن الله الكريم هو الذي يضمن رزقنا، ورحمته لا نهائية؟ فلماذا نتكلف كل هذا العناء ونقلق بشأن نتيجة أعمالنا؟» ابتسم الحكيم وقال: «بلى، رحمة الله لا نهائية، لكنه يوصل نبع رحمته إلى غصن قد ارتوى من جذر سليم وماء عذب. إنه يعد بالبركة للمزارع الذي يجهز الأرض ويزرع البذور الصالحة ويحميها من الآفات، لا لمن يزرع بذرة فاسدة ويتوقع حصاداً ذهبياً. الوعود الإلهية هي دليل لجهدنا ويقظتنا، وليست غطاءً لغفلتنا. فاسعوا لتحقيق شرط الوعد وتنعموا بفضله.»